للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث قصة إسلام ثمامة بن أثال]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تقديم غسل الكافر إذا أراد أن يسلم.

أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (إن ثمامة بن أثال الحنفي انطلق إلى نجل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر.

مختصر)].

هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، وهو حديث ثمامة بن أثال وكان سيد بني حنيفة، أراد أن يذهب ليعتمر وهو على شركه وعلى طريقة المشركين، فأخذه فرسان النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوا به إلى المدينة، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فربط في سارية من سواري المسجد ثلاثة أيام؛ وإنما ربط لأجل أن يرى المسلمين ويشاهد الصلاة، ويشاهد المسلمين عند دخولهم وخروجهم.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل يوم يمر عليه -كما في صحيح البخاري - يقول: (ما عندك يا ثمامة؟! فقال: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فاسأل ما بدا لك).

يعني: إن أنعمت علي فأنا شاكر أقدر المعروف، وإن تقتل تقتل رجلاً عظيماً له مكانته في مجتمعه، وإن كنت تريد المال فاسأل ما بدا لك.

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتركه، ثم يأتيه من الغد فيقول مثل ذلك: (ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فاسأل ما بدا لك، ثم تركه، وجاءه في اليوم الثالث فقال مثل ذلك).

فتوسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه رغب في الإسلام، فقال: (أطلقوا ثمامة، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله).

وهذا الحديث فيه أنه اغتسل هو، وأنه لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال فاغتسل قبل أن يسلم، ثم قال: (يا رسول الله! ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك - يعني: قبل أن يسلم - فوجهك الآن أحب الوجوه إلي).

وفي صحيح البخاري زيادة: (وما كان دين على وجه الأرض أبغض إلي من دينك، فالآن دينك أحب الأديان إلي، وما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فبلدك الآن أحب البلاد إلي).

فانظر إلى الإسلام كيف غيره في ساعة واحدة، وكيف غير وجهه وغير ما في قلبه في لحظة وفي ساعة واحدة، فقد كان أبغض الوجوه إليه وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار أحب الوجوه إليه، وكانت أبغض البلاد إليه بلد النبي صلى الله عليه وسلم، فصارت أحب البلاد إليه، وكان أبغض الأديان إليه دين الإسلام فصار أحب الأديان إليه.

قوله: (فانطلق إلى نجل) روي بالجيم ورواية بالخاء، والنجل هو: الماء الجاري القليل.

(ثم قال: يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر).

وهذا فيه دليل على أن الكافر إذا أسلم ونوى شيئاً من الخير عليه أن ينفذه.

ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) فوفى بنذره الذي كان قد نذره في الجاهلية.

وفي البخاري أن ثمامة بن أثال لما ذهب إلى مكة قالوا له: صبوت يا ثمامة! خرجت من دينك، وجعلوا يذمونه، فقال: لا، بل أسلمت لله رب العالمين، والله لا تأتينكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا حصار اقتصادي؛ لأن أهل مكة ليس عندهم حبوب ولا أرض يزرعون فيها، وإنما عندهم جبال تحيط بهم، فقال لهم: إذا أنتم تسبونه وتعيبونه فلن تأتيكم حبوب إلا إذا أذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

والشاهد من الحديث: أنه اغتسل قبل أن يسلم.

وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل)، وأما هنا ففيه أنه اغتسل بدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره، وفيه أنه اغتسل قبل أن يسلم.

وهذا يدل على أن الغسل ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجباً لقال له: اغتسل، لكن ليس فيه أن النبي عارض ذلك، وليس فيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سأسلم، بل هو من نفسه ذهب واغتسل ثم جاء وتشهد شهادة الحق، وشهد لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة.

والنبي صلى الله عليه وسلم ربطه ثلاثة أيام في المدينة، وهذا ممنوع في مكة، وهذا من المفارقات بين مكة والمدينة، فمكة لا يدخلها كافر، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:٢٨].

وأما في المدينة فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال، وجاءت الوفود أيضاً في سنة الوفود، وكان الوفود كلهم كفاراً، ومع هذا جاءوا ودخلوا المدينة وأسلموا، وأيضاً نصارى نجران جاءوا المدينة ودخلوا المدينة، فمنع الكافر إنما هو خاص بمكة والمسجد الحرم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:٢٨].

<<  <  ج: ص:  >  >>