للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم التيمم في الحضر]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب التيمم في الحضر.

أخبرنا الربيع بن سليمان قال: حدثنا شعيب بن الليث عن أبيه عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه فقال أبو جهيم (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، ولقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار، ومسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام)].

هذه القصة ترجم لها المؤلف رحمه الله بـ: (باب التيمم في الحضر) والمكان الذي أقبل فيه الرسول من بئر جمل هو: موضع بوادي العقيق، ولعل الماء كان بعيداً، ولو كان في الحضر أو كان الماء قريباً لاستعمله؛ لأن النصوص التي فيها اشتراط فقد الماء للتيمم محكمة، كقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:٤٣].

فلا بد أن يحمل هذا الحديث على ما يوافق النصوص، وإلا للزم من ذلك القول بالتيمم ولو كان الماء قريباً وخاف أن تفوت عليه صلاة الجمعة أو صلاة الجنازة، كما قال ذلك بعض أهل العلم، ونسب هذا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أي: أنه يقول: إذا خاف فوات الجمعة فإنه يتيمم، ولو كان الماء موجوداً عنده، وكذلك إذا كانت عنده جنازة وخاف فواتها فيتيمم؛ لأنه إذا ذهب ليتوضأ فاتته الجمعة أو فاتته الجنازة، لكن هذا القول ضعيف مرجوح.

والصواب: أنه لا يجوز له أن يتيمم، بل يتوضأ ولو فاتته الجمعة والجماعة؛ لأن الأصل عدم التيمم إلا إذا فقد الماء لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:٤٣].

ولأن الوضوء شرط في صحة الصلاة وهو مقدم على الجمعة والجماعة، فالجماعة واجبة والوضوء شرط، والشرط مقدم على الواجب، فيتوضأ ولو فاتته الجماعة أو الجمعة، هذا هو الصواب؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:٤٣].

ويؤخذ من هذا الحديث: مشروعية التيمم للوضوء المندوب دون الواجب مع القدرة على الماء، كأن يكون البئر قريباً، لكن المندوب سيفوته بالوضوء، فيشرع للإنسان أن يتيمم بدلاً عن الوضوء، هذا في المندوب دون الواجب، مع القدرة على الماء إن خشي أن يفوته هذا المندوب؛ لأن رد السلام على طهارة مستحب وليس بواجب، ولو رده على غير طهارة فلا بأس، كما ثبت في حديث عائشة الذي رواه الإمام مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيان) والسلام ذكر، فلا بأس أن يرده الإنسان ولو على غير طهارة، ومرت معنا قصة أبي هريرة: أنه خرج وهو على جنابة فخنس من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) لكن هذا من باب الاستحباب، ولهذا لما سلم هذا الرجل -في الحديث الذي نحن بصدده- على النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام، فهذا من باب الاستحباب، وإلا فرد السلام على غير طهارة لا بأس به.

فيؤخذ من الحديث: مشروعية التيمم للوضوء المندوب دون الواجب مع القدرة على الماء، كأن يكون قريباً منه ويخشى أن يفوت هذا المندوب بالوضوء، أما إطلاق ترجمة المصنف بقوله: (باب التيمم في الحضر) فهذه الترجمة مطلقة لكن تقيد بكونه: في الحضر للمندوب دون الواجب، إذا خشي أن يفوت هذا المندوب، أما التيمم في الحضر للصلاة فلا يجوز إلا مع فقد الماء، فإن تيمم -والماء موجود- للصلاة أو لتلاوة القرآن أو للمس المصحف، أو للطواف بالبيت فلا يصح تيممه، ولا يستبيح به ما يستبيحه بالوضوء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [التيمم في الحضر.

أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد قال: حدثنا شعبة عن سلمة عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه: (أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه فقال: إني أجنبت فلم أجد الماء قال عمر: لا تصل.

فقال عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين! أما تذكر إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: إنما كان يكفيك فضرب النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى الأرض ثم نفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه - وسلمة شك لا يدري فيه إلى المرفقين أو إلى الكفين- فقال عمر: نوليك ما توليت).

أخبرني محمد بن عبيد بن محمد قال: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن ناجية بن خفاف عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (أجنبت وأنا في الإبل فلم أجد ماء فتمعكت في التراب تمعك الدابة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال: إنما كان يجزيك من ذلك التيمم)].

هذه الترجمة كالترجمة السابقة (باب التيمم في الحضر) وهنا نلاحظ المؤلف رحمه الله يكرر التراجم؛ ولعله لاختلاف متن الحديث، والنسائي على طريقة البخاري رحمه الله في كثرة التراجم، وعلى طريقة مسلم في سياق الأسانيد وطرق الحديث.

وذر هذا الذي روى عنه سلمة هو: ذر بن عبد الله المرهبي، وهو يشتبه مع زر على بعض الناس، فالأول بالذال: ذر بن عبد الله المرهبي والثاني بالزاي، وليس في الكتب الستة غيرهما زربن حبيش وذر بن عبد الله المرهبي.

وفي هذا الحديث: قصة عمار وعمر رضي الله عنهما عندما لم يجدا ماء فقال عمر: أما أنا فلا أصلي حتى أجد الماء، وأما عمار فنزع ثيابه وتمعك كما تتمعك الدابة، أي: قاس التيمم للجنابة على غسل الجنابة، ففي غسل الجنابة يعمم البدن بالماء، فظن عمار رضي الله عنه أن التيمم يعمم بالتراب كالماء، ففي هذا الحديث! إثبات القياس والرد على منكريه، فالصحابة كانوا يعرفون القياس ويعملون به، فهو رد على الظاهرية كـ ابن حزم وداود الظاهري وغيرهما من الذين أنكروا القياس، فهذا الحديث من آيات الله العظيمة، فكيف نسي عمر هذه الحادثة مع شهرتها ووقوعها له؟ وكذلك حصل لـ عبد الله بن مسعود مع أبي موسى مثل ما حصل لـ عمر مع عمار، ثم كيف خفيت الآية على عمر مع جلالة قدره أي: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:٤٣]؟! والآية التي نسيها عمر في المائدة وفي النساء، ففي الحديث: أن العالم الكبير قد يخفى عليه شيء من العلم وقد ينسى أمراً واضحاً.

وفيه دليل على أن الحجة هي كتاب الله وسنة رسوله، ولا يقلد العالم إذا غلط أو أخطأ أو نسي ولو كان كبيراً، فهذا عمر مع جلالة قدره، قد نسي قوله سبحانه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:٤٣].

ففي الحديث أن رجلاً سأل عمر وقال: إني أجنبت فلم أجد الماء؟ فقال له عمر: لا تصل حتى تجد الماء.

فذكره عمار بن ياسر قائلاً: (يا أمير المؤمنين! أما تذكر إذ أنا وأنت في سرية فأجنبت فلم نجد الماء فأما أنت فلم تصل) أي: أن عمر امتنع عن الصلاة حتى يجد الماء، وأما أنا فتمعكت في التراب، يعني: نزع ثيابه وتمعك في التراب كما تتمعك الدابة فصليت فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما كان يكفيك فضرب النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى الأرض ثم نفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه).

هذا الحديث فيه فوائد عظيمة، وهو في الصحيحين من حديث عمار، والعمدة على حديثه في مسألة التيمم.

ففيه: أن التيمم ضربة واحدة بكفيه ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، خلافاً لمن قال من أهل العلم يضرب المتيمم ضربتين، إحداهما للوجه والثانية للكفين، وخلافاً أيضاً لمن قال من أهل العلم: إن المسح يكون إلى المرفقين أو إلى الإبطين؛ لأن حديث عمار محكم واضح وفي الصحيحين.

وفيه: أن التيمم ضربة واحدة للحدث الأكبر والأصغر، فيمسح بهما وجهه ثم كفيه، لكن لو ضرب ضربتين جاهلاً أو ناسياً فلا حرج.

وقوله: (ثم نفخ فيهما) أي: لتخفيف الغبار العالق بالكفين؛ لأنه ليس المقصود أن يلطخ الإنسان وجهه بالتراب، وإنما المقصود الامتثال، فإذا كان التراب كثيراً ونفخ فيهما فلا بأس.

قوله: (وسلمة شك لا يدري فيه إلى المرفقين أو إلى الكفين)، يعني: أن مسح اليدين، جاء في الحديث الصحيح أنه إلى الكفين، أي: إلى الرسغ، وهو مفصل الكف عن الذراع، فهذه هي المرادة إذا أطلقت في التيمم، وهي المرادة كذلك في السرقة، فإن التي تقطع عند السرقة من مفصل الكف.

وفي الحديث: أن من لم يجد الماء فإنه يتيمم بالتراب ويصلي ولا يؤجل الصلاة، وكان الذين قبلنا يؤجلون الصلاة إذا لم يجدوا الماء، وهذا من الآصار التي كانت عليهم، أما شريعتنا فيسرها الله علينا وخففها، فإذا لم يجد المسلم الماء فإنه يتيمم.

وفيه: استحباب نفخ التراب إذا كان كثيراً، ولما ذكر ذا عمار لـ عمر قال له: نوليك ما توليت، وفي اللفظ الآخر -كما سيأتي- أنه قال: إن شئت يا أمير المؤمنين! ألا أحدث به، فقال عمر: نو

<<  <  ج: ص:  >  >>