للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تربية الأنبياء لأقوامهم]

إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه صلى الله عليه وآله وسلم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل شيء من الأمور، سيما هذه القضية التي نتناولها، وهي قضية الرفق بمن يربيه الإنسان، وليس هذا فحسب، بل هذا طريق سلكه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إخوانه الأنبياء والمرسلون، فهذا نوح عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف:٥٩] انظر بماذا بدأ؟ (يَا قَوْمِ)، أصلها: يا قومي، فهو ينتمي إليهم، ويبين لهم أنه منهم، وأنه حريص عليهم ومشفق بهم، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:٥٩] انظر الشفقة! إني أخاف عليكم، وأنت لا تخاف إلا على من تحبه وترجو له الخير، وهذا من رفق نوح عليه السلام في الدعوة؛ حيث خاف عليهم من العذاب الأليم، والشقاء السرمدي.

وكذلك أيضاً نلاحظ موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام كيف واجها أعتى وأشد جبابرة الأرض، وهو فرعون الذي طغى وتجبر حتى وصل به الأمر إلى ادعاء الألوهية، يقول تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:٣٨]، وهذه الآية يستدل بها على مسألة من مسائل العقيدة وهي: أن الله فوق خلقه، عالٍ عليهم؛ لأن موسى عليه السلام لابد أنه أخبر فرعون أن الله في السماء، فرد على ذلك بقوله لوزيره: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا) ابن لي بناء عالياً جداً (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) وأنظر، هل موسى صادق أن هناك إلهاً في السماء (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ).

الشاهد: مع عظم الجرم الذي ارتكبه فرعون، وما واجه به موسى وهارون عليهما السلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون إذا أتيا فرعون أن يخاطباه باللين وأن يترفقا به.

إذاً: الشدة والغلظة سلوك مناف للسلوك الإسلامي القويم، وبعض الناس يظن أن هذا من الحماس للدين، ومن النصرة لله ورسوله، لا، أنت لا تتنازل عن الحق، لكن عامل هذا الإنسان بشفقة وبرحمة كي ينجو من عذاب الله تبارك وتعالى، كالطبيب الذي يعالج الناس بالدواء، والدواء قد يكون في غاية المرارة، لكن يخلط بأشياء حلوة المذاق حتى يستسيغ المريض الدواء وينفعه، ونفس الشيء التلطف في العبارة، مع عدم التنازل عن الحق، يقول الله سبحانه وتعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٣ - ٤٤] هل هناك دليل أعظم من هذا في أهمية الرفق؟! فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] والذي فعل ما فعل؛ يرسل الله إليه نبيين كريمين ويقول لهما: (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).

يقول القرطبي رحمه الله تعالى: فإذا كان موسى عليه السلام أمر بأن يقول لفرعون قولاً ليناً فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه وأمره بالمعروف.

يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حصل له الكيد والأذى من أعز الناس وأقربهم إليه، من إخوته، إلى أن وضعوه في البئر، ثم بيع بعد ذلك، وهذا البيع اقترن به نفي إلى مصر، وابتعد عن أبيه، ولحق أباه الحزن الشديد حتى كف بصره عليه السلام، وسجن يوسف عليه السلام بضع سنين، وحصل له الأذى، وكان المتسبب في ذلك إخوته، مع ذلك ضرب أسمى الأمثلة في الإحسان وحسن الخلق، وكمال العفو والصفح، حيث قال لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:٩٢] لا لوم ولا عتاب، ولا توبيخ، {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٩٢] أي: قال لهم يوسف كرماً وجوداً: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)، أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فسمح لهم سماحاً تاماً من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا في نهاية الإحسان الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.

وجميع الأنبياء إذا استعرضنا سيرهم سوف نجد أن جانب الرفق واللين والرحمة استعملوه بكثرة مع قومهم، وهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة في تربية أصحابه رضي الله تعالى عنهم، يقول الله سبحانه تعالى في وصف رسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧]، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] (فَبِمَا رَحْمَةٍ) أي: رحمة عظيمة لهم كائنة من الله، (لِنْتَ لَهُمْ) أي: كنت معهم لين الجانب، وعاملتهم بالرفق والتلطف، حيث لنت لهم بعدما حصل من مخالفة أمرك، وإسلامك للعدو، وكان هذا في غزوة أحد (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

وقال تعالى في بيان صفات النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨]، وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:٤٣]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم ل عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعطي الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم الرفق فقد حرم حظه من الخير)؛ فانظر كيف ربط الحصول على الخير بمبدأ الرفق؛ لأن من أراد الخير فلن يحصل عليه إلا بالرفق، فهذا من مكارم الأخلاق ومن معالي الأمور.

ولذلك بلغ تعظيم أمر الرفق إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به) أي شخص يلي أمر أحد من الأمة سواء كان مدير مدرسة مدرساً أباً مع أبنائه حاكماً مع رعيته وهكذا أي إنسان استرعاه الله سبحانه وتعالى على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يرفق بالمسلمين، حتى يدخل تحت دعوته صلى الله عليه وآله وسلم، وينجو من الدعوة عليه على لسان خير البشر صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به).

وعن عمر بن أبي سلمة قال: (كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة -يعني: الإناء، فيديه تتحرك في كل أجزاء الإناء ولا يأكل مما يليه- فقال لي: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، رواه مسلم، فلم ينهره ولم يعنفه ولم يزجره، بل أمره برفق ولين وعطف مستخدماً أسلوب النداء (يا غلام)، ففيه ألفة وقرب ورحمة مع أنه أخطأ، مع أنه حاد عن آداب المائدة وآداب الطعام، لكن مع ذلك انظر كيف رفق به وعلمه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بوب الإمام مسلم رحمه الله تعالى فقال: باب: جواز قوله لغير ابنه: يا بني.

واستحبابه للملاطفة، يجوز للإنسان أن يقول لمن ليس ابناً له من صلبه.

يا بني.

تلطفاً به وتودداً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني) وهذا هو الشاهد، وقال النووي رحمه الله: في هذين الحديثين جواز قول الإنسان لغير ابنه ممن هو أصغر منه سناً منه: يا بُني ويا ولدي.

وهذا معناه: التلطف كأنه عندك بمنزلة ولدك في الشفقة، ويقول لمن هو في مثل سن المتكلم: يا أخي! وهذا نوع من التلطف والتودد لنفس هذا المعنى.