للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواقف من رفق النبي بأمته]

نذكر قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام أصحابه ظناً منه أن أرض المسجد مثل أرض الصحراء والفلاة التي عاش فيها، ويعمل فيها ما يشاء، فبال في المسجد، فقام عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليزجروه ويمنعوه، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم ومنعهم وقال: (لا تزرموه) أي: لا تقطعوا عليه هذا الذي يفعله، وحال بينهم وبين أذية هذا الأعرابي، وتركه حتى فرغ من قضاء حاجته في المسجد، وعالج الموقف الطارئ بأحسن علاج وأكمل منهج كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

كذلك ضاقت عليه صلى الله عليه وسلم مكة بأوديتها وسهولها وجبالها؛ بسبب سفهاء قريش الذين أسرفوا في إيذائه والصد عن دعوته، ولم يجد بداً إلا أن يخرج إلى الطائف لعله يجد من ينصره؛ لكي يبلغ رسالة ربه، ويجد المؤازرة والدفاع، فلم يظفر بشيء من هذا، بل وجد الأذى والتهكم والطرد بالحصى والحجارة، حتى دميت عقباه صلى الله عليه وسلم، وتلطخت نعلاه بالدم، وسال دمه الزكي على أرض الطائف صلى الله عليه وآله وسلم، لقي كل هذا من سفهاء الطائف وعبيدهم وغلمانهم وأطفالهم، ثم غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف وهو مهموم النفس مكلوم الفؤاد؛ فلم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، وهو ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة، فرفع رأسه فإذا هو بسحابة قد أظلتهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (فنظرت فإذا فيها جبريل، قال: فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد! إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) الأخشبان جبلا مكة: أبو قبيس والذي يقابله، ولو أطبقا عليهم لهلك أهل مكة أجمعون (قال: يا محمد إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) رواه البخاري ومسلم.

تأمل هنا: هل توجد القدرة على الانتقام أم لا توجد؟ توجد حتى أنه ضامن أن الله سبحانه وتعالى راض عما يفعل؛ لأن الله أجاز له ذلك لما أرسل جبريل وملك الجبال معه، فبلا شك أنه يباح له الانتقام، بعض الناس ينتقم شفاء لغليله، ويعرف أن الانتقام محرم عليه، لكن هنا هو مطمئن تماماً أنه لا وزر عليه أبداً في الانتقام، وقادر على الانتقام، وأمره لا يرد؛ لأنه من الله سبحانه وتعالى بتسخير الملائكة، كان يقدر أن يرد اعتباره عن هذه الأذية التي تعرض لها من العبيد والغلمان في الطائف والأشراف حتى ضربوه بالحجارة حتى دميت قدماه، وأصابه ما أصابه صلى الله عليه وسلم، فالأسباب والدوافع للانتقام موجودة، ووسيلة الانتقام مضمونة تماماً، وهناك حاجة موجودة إلى رد الاعتبار وإلى شفاء الصدر من الكفار، ولكن الرحمة والشفقة في صدر نبي الله صلى الله عليه وسلم للناس عموماً، ورفقه حتى بالذين يعاندونه موجود حتى أنه غلب جانب الانتقام والبطش صلى الله عليه وآله وسلم.

إذاً: الأذية موجودة، للنبي عليه الصلاة والسلام وهو من هو، والاستحقاق للانتقام يشتد كلما كان الشخص الذي أخطأت في حقه أشرف وأعظم، فمن في البشرية كلها أشرف وأعظم وأجل من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع وجود كل الدوافع والقدرة على الانتقام إلا أنه آثر جانب الرحمة، وتمنى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا شريك له، فبلا شك أن الصغار هم أولى بهذه الرحمة، وأولى بالرفق، وأولى بأن تتحرر من الدافع للانتقام، تتشفى مِن من؟ من ابنك الذي هو فلذة كبدك، تتشفى فيه وتضره أبلغ الضرر، وتؤذيه أشد الأذية! فلا شك أننا محتاجون إلى إعادة التذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الأنبياء ومن تبعهم في هذه الناحية التربوية؛ لأن أسلوب التشدد والغلو والعنف والتنطع والقسوة كلها أساليب حذرت منها شريعة الإسلام، يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] هذا عموم يدخل فيه أي سلوك نسلكه، ولذلك ورد: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون قالها ثلاثاً) رواه مسلم، وهم المتعمقون الضالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

وقال عليه الصلاة والسلام أيضا كما رواه البخاري: (إن الدين يسر) لم يقل: إن الدين يسير، لكن جعل الدين هو اليسر، (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، فأمر باليسر، وأمر بالأخذ بالأسهل والأرفق في الأمور كلها؛ لأن (الرفق -كما قال صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).

إذاً: المربي المسلم سواء كان مدرساً أو مدرسة أو أباً أو أماً ينبغي أن يكون عطوفاً شفوقاً ودوداً محباً لمن يربيهم، مترفقاً بهم، صبوراً عليهم، متأنياً في تعليمهم، حريصاً على نفعهم، وهو في ذلك يقتدي بأسوته وقدوته الذي كان نموذجاً يحتذى وأسوة يقتدى به في هذا الخلق القويم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان قمة في الرحمة والشفقة والعطف والرفق واللين لأمته.

كانت هذه مقدمة لاستعراض هذا البحث، وهو بحث تربوي، وهو عبارة عن رسالة ماجستير، أعدها الشيخ صالح بن سليمان المطلق البقعاوي بعنوان: مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين من منظور التربية الإسلامية، وسوف نأخذ بعض المقدمات من الكتاب ثم نكمله إن شاء الله تعالى فيما بعد.