للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رابطة الأخوة الإسلامية من أعظم أركان الهوية الإسلامية]

قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٩٢] تربط هذه العقيدة الإسلامية -التي هي الركن الأعظم في الهوية الإسلامية- المسلم بأخيه، حتى يصير المسلم وأخوه كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتواددهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

ومن الأشياء البديعة أن القرآن الكريم يطلق النفس ويريد بها أخاك في الإسلام وفي الهوية الإسلامية؛ تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه، كما قال تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:٨٤] والمقصود: لا تخرجون إخوانكم في العقيدة وفي الهوية الإسلامية من دياركم، فأطلق على الإخوان الأنفس، مما يدل على قوة الاندماج والذوبان في الهوية الإسلامية، وقال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:١٢]، والمقصود: ظنوا بإخوانهم خيراً، فعبر عن الإخوان بالأنفس، وقال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:١١] أي: لا تلمزوا إخوانكم على أصح التفسيرين.

إذاً: العقيدة -كما قلنا- هي المادة اللاصقة التي تربط لبنات المجتمع الإسلامي، وإذا وجدت فإنها تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية، حيث لا يمكن أن تقع، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:٢٢]، إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، ومع ذلك فالإيمان هو الفيصل في هذه القضية، يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:٧١]، ويقول تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:١٠٣].

هذه الرابطة التي تجمع المختلف وتألف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله، هذه الرابطة تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد كالبنيان يشد بعضه بعضاً.

ولم تربط فقط بين أهل الأرض من المؤمنين، وإنما أيضاً ربطت بين حملة العرش ومن حول العرش من الملائكة وبين بني آدم المؤمنين في الأرض، مع ما بينهم من الاختلاف؛ فإن هؤلاء ملائكة وهؤلاء بشر من بني آدم، وهم مختلفون في الخلق والتكوين، لكن مع ذلك فإن الانتماء للهوية الإسلامية يربطك ليس فقط بالمؤمنين على وجه الأرض، وإنما يربطك بكل هذا الكون المؤمن، وتشعر بالولاء له، لا كما يفترض الغربيون الجهلة بالله وبسننه عز وجل، حيث يجعلون الإنسان دائماً في حالة صراع مع الطبيعة.

فهذه الطبيعة ليست عدوة للإنسان، بل -إن جاز التعبير- مظاهر الطبيعة هي إخوان له في الله، وإخوان له في التوحيد، والأدلة على ذلك كثيرة جداً.

نذكر مثالاً على ذلك بالوزغ الذي حرضنا الرسول صلى الله عليه وسلم على قتله، وعلل ذلك بأنه كان ينفخ النار على إبراهيم لما ألقاه قومه في النار، فانظر إلى العداوة لهذا النوع من الحيوانات لأجل أنه فعل ذلك مع إبراهيم، وانظر إلى جبريل عند إغراق فرعون، فإنه: (لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:٩٠])، يقول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (فلو رأيتني -يا محمد- وأنا أدس في فيه من حال البحر خشية أن تدركه الرحمة).

فجبريل كان يعادي فرعون لأنه عتا وطغى ونازع الله سبحانه وتعالى، وكفر بالله العظيم، فجبريل كان يبغضه من أجل ذلك، فخشي جبريل أن تنقذه هذه الكلمة التي قالها وهو يهلك، فكان يأخذ من طين البحر ويدس في فيه مخافة أن تدركه الرحمة إذا نطق بهذه الكلمة التي قالها عند الهلاك، والتي لا تنفعه قطعاً.

كذلك إذا أحب الله عبداً في السماء، نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في ملائكة كل سماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وهذا مظهر من مظاهر هذا التوحد مع الكائنات من حولنا.

يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:٧]، انظر إلى كلمة: (يؤمنون به) هي المادة اللاصقة، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:٧] وهذا هو الرابط في العقيدة والهوية الإسلامية، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:٧].

وتأمل قول الله سبحانه وتعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:٣]، وقابل ذلك بمكانة سلمان الفارسي، وبلال الحبشي وصهيب الرومي رضي الله عنهم أجمعين، فما خوطبوا أبداً على أساس أن هويتهم أن هذا رومي، وهذا فارسي، وهذا حبشي، كلا! وإنما كلهم متساوون كأسنان المشط أمام هذه العقيدة وهذا التوحيد، يقول الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم انظر ما آل إليه، وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا مات وليس له من الأقرباء إلا ابن واحد كافر فتركته وميراثه يئول إلى إخوانه المسلمين بأخوة الإسلام؛ لأن هذه هي القرابة الحقيقية، ولا يكون الإرث لولده لصلبه الذي هو كافر، مع أن الميراث دليل القرابة، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) فوصفهم بصفة الإسلام، وما قال: المصريون، وما قال: الشاميون، وما قال: اليمانيون، وإنما قال: المسلمون.

وهكذا كل خطاب في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) لم يخاطب قوماً غير أهل الهوية الإسلامية.

واعتبر أيضاً هذا المعنى بقول الله تبارك وتعالى مخاطباً نوحاً عليه السلام في شأن ابنه الكافر حيث قال: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦] وفي قراءة: (أنه عَمِلَ غير صالح) وهو ابنه من صلبه، ولكن الميزان عند الله سبحانه وتعالى في ضوء الهوية الإسلامية ومدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولذا قال سبحانه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لماذا؟ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) لم يكن معك على عقيدة التوحيد، ولم يكن مندمجاً في الهوية الإسلامية كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: (ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته).

واعتبر ذلك أيضاً بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه الكافرين، وتأمل قوله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:٤].

وتأمل موقف المسيح عليه السلام مع قومه بني إسرائيل، وكيف انقسموا فوراً إلى أنصار مؤمنين وأعداء كافرين، على أساس موقفهم من دعوتهم إلى الاندماج في العقيدة الإسلامية.

وتأمل أيضاً كيف يأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نقتدي بهم في هذا، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:١٤] فهم في الحال صاروا أعداء لما خالفوهم في هذه العقيدة.