للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير معنى الاستئناس في قوله تعالى: (حتى تستأنسوا)]

يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:٢٧]، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم، وسبب هذا الإشكال: التعبير عن الاستئذان بالاستئناس، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)، فعبر عن الاستئذان بالاستئناس، مع أن الاستئذان والاستئناس مادتان مختلفتان، من حيث الحروف، ومن حيث المعنى.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وحكى الطحاوي: أن الاستئناس في لغة اليمن: الاستئذان، وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى: الوجه الأول في تفسير هذه الآية: أن قوله تعالى: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش -أي: حتى تذهب الوحشة عنكم- لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس وزال عنه الاستيحاش، وفي حديث عمر الطويل في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه يقول: (فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فجلست) رواه البخاري في أواخر كتاب النكاح، فقوله: (أستأنس يا رسول الله؟) أي: أستأذن.

ولما كان الاستئناس لازماً للإذن أطلق اللازم وأريد ملزومه الذي هو الإذن، وإطلاق اللازم وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف، والقائلون بالمجاز يقولون: إن ذلك من المجاز المرسل.

وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم -الذي هو الاستئناس- وأريد ملزومه -الذي هو الإذن- يصير المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأذنوا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:٥٣]، وقال تعالى في نفس هذه الآية: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:٢٨]، فكلمة: (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) تدل على أن المراد من قوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى يؤذن لك، أو تستأذن.

وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره: وهذا من قبيل الكناية والإرداف؛ لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن؛ لأنه يأتي بعد الإذن.

هذا هو الوجه الأول في تفسير الآية: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى تأتوا بالإذن الذي يوجب زوال الوحشة، ويحصل به الاستئناس.

الوجه الثاني في تفسير الآية: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى تستعلموا وتستكشفوا، فتستأنسوا: استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، أو علمه، والمعنى: حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يؤذن لكم أو لا؟ وتقول العرب: استأنس هل ترى أحداً؟ أي: انظر هل ترى أحداً؟ وتقول: استأنست فلم أر أحداً، أي: تعرفت واستعلمت، ومن هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ} [النساء:٦] أي: استكشفتم واستعلمتم وعلمتم أنهم قد رشدوا، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:٦] أي: إن علمتم رشدهم وظهر لكم، وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَس} [طه:١٠] (آنست) أي: اكتشفت، أو استكشفت، أو استعلمت، وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} [القصص:٢٩] (آنس ناراً) أي: رآها مكشوفة.

أيضاً في نسق التلاوة ما يدل على أن المراد بقوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:٢٧] الاستئذان، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٩] وهم الكبار، فأين الكلام عن الكبار؟ هو في الآية السابقة التي فيها الاستئناس.

ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان: كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد ومنه أيضاً قول الحارث بن حلزة اليشكري يصف نعامة شبه بها ناقته: آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصراً وقد دنا الإمساء قوله: آنست نبأة، أي: أحسست بصوت خفي.

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا: تستكشفوا وتستعلموا هل يؤذن لكم؟ وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون بالاستئذان أظهر عندي، وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا.

قلت: لا بأس من إيراده وإن كان في غاية الضعف، وهو: ما حكاه الزمخشري حينما قال: ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعلق عليه الناصر فقال: وذكر أيضاً وجهاً بعيداً، وهو أن المراد: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:٢٧] أي: حتى تعلموا هل فيها إنسان أو لا.

وهذا ضعيف من حيث المعنى؛ لأن الإنسان إذا استأذن هل معنى ذلك أنه يسأل: أيوجد إنسان في الداخل أم لا؟ وهل هذا هو معنى الاستئذان؟ لا، فإنّ موضوع الاستئذان هو طلب الإذن في الدخول ولو كان هناك إنسان في الداخل، كما سنوضحه فيما بعد، هذا أولاً.

ثانياً: أن كلمة: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) لو قلنا: إنّ معناها: حتى تعلموا هل يوجد إنسان في الداخل أم لا، فمعنى هذا أنه اشتق من كلمة الإنس.

وقال الألوسي رحمه الله تعالى: وضُعِّف بأن فيه اشتقاقاً من جامد -أي: أن كلمة (الإنس) كلمة جامدة، فكيف يشتق منها مادة استأنس؟ - كما في المسرج أنه مشتق من السراج، وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن، فيوهم جواز الدخول بلا إذن.

أي: إذا عرفنا أن هناك أحداً في الداخل فهل ندخل بدون إذن؟

الجواب

لا، فلذلك ضعف هذا الوجه من الناحيتين: الناحية الأولى: أنّه اشتقاق من جامد وهي كلمة (الإنس)، وهذا لا يصح.

الناحية الثانية: أنّ محور القضية ليس هو: هل يوجد إنسان أم لا؟ وإنما محورها: هل يأذن أم لا؟ ولو كان موجوداً.