للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور من رحمة الأنبياء عليهم السلام بأقوامهم]

وإذا نظرنا إلى سيرة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام نرى حقيقة هذا المعنى، معنى الخوف على الناس من عذاب الله والشفقة والرحمة بهؤلاء القوم، فمثلاً: فرعون الذي طغى وتجبر وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:٢٩]، فهل هناك ذنب أعظم من أن يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] أن يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]؟! فشر الناس في زمانه كان فرعون لعنه الله، فإذا بالله تبارك وتعالى يبعث إليه رسولين هما موسى وهارون عليهما السلام، ويقول لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤]، فإن القول اللين يكون أقرب إلى قبوله، فباستطاعتك أن تلين قلبه ويستجيب لك، فهل هذا ضعف في الدين؟ هل هذا تنازل من موسى وهارون لفرعون بلين ورفق وحكمة؟ كلا! إذاً ينبغي أن لا يكون هذا الفكر هو الذي يسيطر على أذهان بعض الناس، وهو أن الأصل في الدعوة الغلظة والشدة والجفاء مع الناس، بل الأصل هو الرفق، كما عليه الصلاة والسلام: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)، وكأن كلمة (يحرم) معناها: الحرمان من شيء عظيم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).

ولا يعني هذا أن الداعية يقر المنكرات أو يحب أعداء الله، لكننا نخاف على خلق الله من عذاب الله، ونترفق بهم، وننوع أساليبنا في رفق ولين وحكمة حتى يستجيبوا لداعي الله تعالى.

إن الذي يريد أن يروج بضاعته إذا أردت أن تشتري منه يترفق بك، ويلين لك القول، ويبتسم في وجهك، ومن هنا فقد تعجبك السلعة كلما كان البائع ناجحاً في عرض بضاعته وترغيب الناس فيها، وهو يدعو إلى سلعة! فكيف بالذي يدعو إلى الله ويدعو إلى الجنة؟ لا شك أنه ينبغي أن يكون تاجراً حاذقاً ماهراً حتى يوفقه الله تبارك وتعالى.

وفي قصة نوح عليه السلام يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:٥٩]، فهل كان نوح عليه السلام يفعل نوعاً من التكتيك السياسي أو العسكري أو نحوه؟ كلا.

يقول نوح عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:٥٩]، وهو صادق في هذه الكلمة عليه السلام.

ويقول تبارك وتعالى -أيضاً- حاكياً عن نوح عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:٦١ - ٦٣] قال: (لعلكم ترحمون) فهو حريص على أن يرحموا من عذاب الله عز وجل، ولكنهم شتموا نوحاً عليه السلام -كما في سورة نوح- وفعلوا به العجائب، وأعرضوا عنه أشد الإعراض، ولكن انظر إلى نبي الله نوح عليه السلام في جوابه لهم، فهو لم يغضب لنفسه، إنما أجابهم جواباً مصبوغاً بالرحمة والشفقة واللطف، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:٦١ - ٦٣].

وإذا تأملنا في قصة حبيب النجار حينما دعا قومه إلى الله عز وجل سنجد ذلك المعنى، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:٢٠ - ٢٥]، فقتلوه بعد هذا الخطاب العظيم، فكان مشفقاً عليهم في حياته وبعد قتله، فبعدما انتقل إلى الجنة قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:٢٦ - ٢٧].

أي: لو أن قومي علموا حسن عاقبتي وما لقيت عند ربي من الإكرام والفضل العظيم لما فعلوا معي ذلك، ولما أعرضوا عن دعوة الأنبياء، ولما تركوا الاستجابة لربهم عز وجل، فأشفق على قومه في الحياة الدنيا وبعدما قتلوه.

وأكثر ما يسبب انحراف المنحرفين عن الحق وعن اتباع الحق ما قد يشعرون به في الداعية من التعالي والأنانية وحب الانتصار للنفس أو للجماعة، فيكون رد الفعل تعالياً أشد، وأنانية أقوى، واندفاعاً أسرع إلى الانتصار للذات.

هذا ما يتعلق بالمنطلق الثاني، وهو أن أعمال الدعوة ينبغي أن تنبعث من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين.