للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أدلة إعفاء اللحية وحرمة حلقها أو تقصيرها]

إن إعفاء اللحية طاعة لله عز وجل وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب:٣٦]، وتأمل وصف الإيمان؛ لأن المؤمن هو الذي من شأنه أن يستجيب لحكم الله ورسوله فقوله: (وَمَا كَانَ) يعني: ما ينبغي أبداً {لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦].

وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣].

في الآية الأولى قال: {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب:٣٦]، وفي الآية الثانية: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:٦٣] فمما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعفاء اللحى.

فقد روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية) رواه مسلم.

وهذا الأمر ورد بصيغ متعددة كلها تدل على ترك اللحية على حالها مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعفوا اللحى) (أوفوا اللحى) (أرخوا اللحى) (أرجوا اللحى) (وفروا اللحى)، فهذه كلها أوامر متنوعة تؤدي إلى غرض واحد.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس) رواه مسلم أيضاً.

(جاء رجل من المجوس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟! قال: هذا ديننا -يعني: هذا ديننا معشر المجوس- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية).

وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟! فقال: إن ربي أمرني بهذا -يعني: كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي).

.

(ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام وبعث به عبد الله بن حذافة رضي الله عنه دفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كسرى إلى باذان -وهو عامل كسرى على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي في الحجاز رجلين جلدين قويين يأتياني به -يعني: يأسران الرسول عليه الصلاة والسلام ويحضرانه إلى هذا الخبيث كسرى لعنه الله- فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه مع رجل آخر من الفرس فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا -يريدان كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قتل ربكما الليلة -سلط عليه ابنه شيرويه فقتله- فرجعا حتى قدما على باذان) إلى آخر الحديث، وهذا الحديث رواه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، وحسنه الألباني.

فظهر من هذه القصة كيف كره النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذينك الرجلين، ولا شك أن هذا يحمل كل مؤمن صادق في إيمانه واتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يفعل فعلاً يتأذى منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ونحن إذا تأملنا أحوال الجماعات الوطنية والأحزاب السياسية والفرق الرياضية والفنية وغير ذلك من هذه التجمعات نرى كل واحد منهم يجتهد في إرضاء قائده وزعيمه، ويتبعه في سيرته ولباسه وهيئته، ولا يأتي بفعل يؤذيه، والعجب كل العجب ممن يحلقون لحاهم كيف ينتسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يرتكبون فعلاً يتأذى منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دون أن يجدوا في أنفسهم أدنى حرج من ذلك؟! هناك قصة حكيت عن رجل من الشعراء تأثر رجل فارسي بكلامه في الحكمة والمعرفة، واعتقد أن صاحب هذه الأشعار رجل عظيم في دينه، قد زكى روحه وجسده، فسافر من بلده إليه كي يراه، فلما وصل إلى باب هذا الشاعر المشهور رآه وهو واقف يحلق لحيته، فقال له مستنكراً ومتعجباً: يا سبحان الله! أتحلق لحيتك؟! فقال الشاعر متفلسفاً: نعم، أحلق لحيتي، ولكني لا أجرح قلب أحد.

يعني: أجرح وجهي بالموسى، لكن لا أجرح قلوب الناس، فرد عليه الرجل الفارسي بالبداهة: بل إنك تجرح قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع الشاعر ذلك غشي عليه، فلما أفاق قال بالفارسية شعراً معناه: جزاك الله خيراً لقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي.

على أي الأحوال فإن إعفاء اللحية طاعة، والطاعة تكون لأمر، والأمر هو أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتينا بالأحاديث التي فيها: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية) ثم بالأحاديث التي فيها نفس الأمر: (اعفوا)، (أوفوا)، (أرخوا)، (أرجوا)، (وفروا).

ثم نقول: إن صيغة الأمر تدل على وجوب امتثال هذا الأمر، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وعلى الجهة المقابلة فحلق اللحية يعد معصية محرمة، فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:٣٦]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:٢٣].

وتقدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإعفاء اللحى، ومخالفة هذا الأمر معصية محرمة يقول عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) متفق عليه.

والأمر بإعفاء اللحى وتوفيرها يستلزم النهي عن حلقها، وعن تقصيرها حتى تكون أقرب إلى الحلق، وهذا أمر مهم جداً لابد أن نلحظه، المعصية ليست فقط بحلق اللحية، بل تقصير اللحية في حد ذاته معصية؛ لأن هذا هو الذي كان يفعله المجوس، فقد كانوا يقصون لحاهم، ولذلك أتى الأمر بمخالفتهم، فمن يقصر لحيته ومن يحلقها فكلاهما مخالف لأمر النبي عليه السلام.

والقاعدة تقول: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده، إذا أمرت بالسكوت فهو نهي عن الكلام، وإذا أمرت بالقيام فهو نهي عن القعود، فكذلك إذا أمرت بإعفاء اللحية فهو يتضمن أو يستلزم النهي عن ضده وهو حلقها أو تقصيرها.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في الحديث: (لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم)، وهذا حديث حسن.

قوله: (لا تنتفوا الشيب) أي: الشعرات البيضاء، ولا فرق في نتف الشيب، سواء كان في اللحية أم في الرأس، ولذلك جاء عن أنس رضي الله عنه قال: (يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من لحيته ورأسه) رواه مسلم.

فالذي يحلق لحيته قد أزال الشعر الأبيض والأسود، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى أن ينتف الرجل الشعرات البيضاء من لحيته أو من رأسه، فالذي يحلق لحيته قد أزال الشعر الأسود فضلاً عن الأبيض الذي هو نور المسلم، وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه وابن أبي ليلى ردا شهادة من كان ينتف لحيته.

وقال الغزالي والنووي عليهما الرحمة: ونتفها -يعني: اللحية- في أول نباتها تشبه بالمرد، ومن المنكرات الكبار.

والمرد جمع أمرد، وهو الغلام الذي طر شاربه وبلغ بروز لحيته ولما تبد.