للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إعفاء اللحية فطرة إنسانية]

إن إعفاء اللحية فطرة إنسانية تقتضيها الفطرة السليمة؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠]، قوله: (فأقم وجهك) يعني: سدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، وحافظ على فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، وهي معرفة الله عز وجل وتوحيده، وتوابع ذلك من خصال الفطرة التي يتجه إليها الإنسان حتى لو لم يرد بها الشرع.

لو أن إنساناً ترك بدون أن تؤثر عليه عوامل البيئة المحيطة به، فإنه سيهتدي بالسليقة وبالفطرة إلى الستر واللباس، ولا يتعرى إلا إذا تأثر ببيئة فاسدة، فتراه يستحسن العري، ولا يشعر تجاهه بأي نفور، فهذا دليل على فساد الفطرة، لكن الإنسان السوي حتى لو لم يعرف عن شرع منزل يأمر مثلاً بقص الأظافر، فإنه بفطرته كإنسان سوف يدرك أن الفرق بين الإنسان وبين الوحوش الكاسرة وذوات المخالب أن يهذب أظافره، وهكذا في سائر خصال الفطرة، سواء الاختتان، أو إعفاء اللحية أو غير ذلك من الخصال، فهذه كلها يهتدي إليها الإنسان بفطرته حتى لو لم يرد شرع، فكيف وقد جاء بها الشرع؟! عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والاستنشاق، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء) قال أحد الرواة: (ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) رواه مسلم.

فخصال الفطرة هي الهيئة التي ابتدأ الله خلق عباده عليها، وغرس في طباعهم فعلها والميل إليها واستحسانها، وجبلهم على النفور مما يضادها، بحيث لو ترك إنسان هذه الخصال لم تبق صورته على صورة الآدميين، وصاحب الفطرة السوية التي لم يطرأ عليها فساد بتأثير البيئة المحيطة يظل مدفوعاً بفطرته إلى كراهية ما في جسده مما ليس من زينته، ومحبة هذه الخصال الجبلية ولو لم يرد بها شرع منزل، فكيف وقد جاءت بها شرائع النبيين؟! لذلك يقول الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى: وأحسن ما قيل في تفسير الفطرة: إنها السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه.

إذاً: إذا كان إعفاء اللحية من خصال الفطرة، فإن حلق اللحية تغيير لفطرة الله وتغيير لخلق الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠] قيل في تفسيرها: هي خبر بمعنى الطلب، يعني: لا تبدلوا خلق الله، ولا تغيروا خلق الله والهيئة التي فطركم الله عز وجل عليها، وهذه الهيئة هي معرفة الله عز وجل بتوحيده، وتوابع ذلك من خصال الفطرة.

ولذلك جاء ذكر بعض خصال الفطرة في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:١٢٤]، فقد ذكروا أن من ضمن هذه الكلمات بعض خصال الفطرة، وقال الله عز وجل حاكياً عن إبليس لعنه الله قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:١١٩]، فهذا ما توعد به إبليس بني آدم منذ البداية.

إذاً: هذا نص صريح في أن تغيير خلق الله عز وجل بدون إذن من الشرع إطاعة لأمر الشيطان، قال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ) فالذي يأمر بحلق اللحية أو بتغيير خلق الله هو إبليس، فحالق اللحية مطيع لإبليس فيما يأمر به، فالله لم يأمر بذلك إنما أمر بإعفاء اللحية، وهكذا أمر الرسول أيضاً عليه الصلاة والسلام، أما الذي يأمر بتغيير خلق الله فهو إبليس.

وقولنا: بغير إذن من الشرع، هذا قيد نضعه حتى لا يعترض معترض ويقول: إن هناك تغييراً في خلق الله أمرنا به الشرع وأوجبه أو استحبه لنا، كالختان فهو تغيير لخلق الله، وكذلك قص الأظافر تغيير لخلق الله عز وجل، وكذلك حلق الرأس عند التحلل من الإحرام، وكذلك خصال الفطرة الأخرى، فالتغيير الذي تعبدنا الله عز وجل به ليس من التغيير المذموم.

أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:٦٤] إشارة إلى الأمر بتحسين الهيئة والتنظيم، كأنه قال: قد فطركم الله في أحسن صورة وأكمل هيئة فلا تضيعوها بما يقبحها ويشوهها، بل حافظوا على هذه الصورة ولا تغيروها عما جبلكم الله عليه، وحافظوا على ما يستمر به حسن هذه الصورة ولا تطيعوا الشيطان في أمره إياكم بتغيير خلق الله، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) متفق عليه، فذكر علة اللعن المستدل به على الحرمة في قوله: (المغيرات خلق الله عز وجل).

فالذي يحلق لحيته هل يحلقها للحسن أم لا يحلقها للحسن؟ بل يحلقها للحسن، فهو يريد أن تكون صورته أجمل، وفي الحقيقة هذا ينافي الفطرة؛ لأن زينة الرجل في اتجاه مخالف لزينة المرأة، المرأة يناسبها التزين بالذهب والأصباغ وغير ذلك من الأشياء، أما الرجل فلا يناسبه ذلك، بل الشيء المناسب لزينة الرجل هو أن يحافظ على رجولته.

ومن زينة المرأة ألا يكون لها لحية في وجهها، أما الرجل فزينته أن يكون ذا لحية، وألا يتزين ويلبس ملابس المرأة، والرجل يستقبح أن يلبس الملابس التي تختص بالنساء، فكما استقبح ذلك فليستقبح أيضاً التزين بحلق اللحية، للأسف الشديد وجد شيء لا يتخيله الإنسان، وهو أن بعض الشباب يتنمصون، وهذا شيء عجيب جداً! إذاً: حالق لحيته للحسن هو أولى بأن يوصف بأنه مغير لخلق الله سبحانه وتعالى، ودخوله في الوعيد من باب أولى؛ لأن المرأة شرع لها من التزين أكثر مما شرع للرجل، وحلق اللحية في معنى النمص الذي هو إزالة شعر الوجه والحاجبين من المرأة للحسن، وهذا في حق الرجل أقبح.