للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة الواردة في تحريم غيبة المسلم]

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).

ونظر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك.

وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: (يا رسول الله! إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها) يعني: هي مشهورة جداً بالاجتهاد بكثرة الصلاة والصيام والصدقة، لكنها تفعل ذنباً واحداً فقط مع كثرة الصلاة والصيام والصدقة، قال: (غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال صلى الله عليه وسلم: هي في النار، قال: يا رسول الله! فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط -وهي قطع من الأقط وهو اللبن المجفف- ولا تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: هي في الجنة).

وعن سفيان بن حسين قال: كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل تخوفت إن قمت من عنده أن يقع في، قال: فجلست حتى قام، فلما ذكرته لـ إياس فجعل ينظر في وجهي فلا يقول لي شيئاً حتى فزعت! يعني: جعل يحدق فيه ويستغرب كيف أنه تجرأ أن يتكلم على أخيه بعدما قام من المجلس، فانزعج من ذلك جداً، فقال لي: أغزوت الديلم؟ قلت: لا، قال: فغزوت السند؟ قلت: لا، قال: فغزوت الهند؟ فقلت: لا، قال: فغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: فسلم منك الديلم والسند والهند والروم ولا يسلم منك أخوك هذا! فلم يعد سفيان إلى ذلك، يعني: تاب من أن يتكلم في أحد.

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، ولا شك أن هذه الضمانة الجسيمة لا تعلق إلا على أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فضمان الجنة لا يكون إلا على شيء عظيم جداً ولا شك أن أعظم ما يهلك الناس هما الأجوفان: الفم والفرج، ولذلك قال النبي عليه السلام: (من تزوج فقد أعانه الله على على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني) أو كما قال، فنصف النجاة في الفرج، والنصف الآخر في اللسان، فمن استقام له هذان ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، فلا يمكن أن تعلق هذه الضمانة الجسيمة إلا على أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحداً عليه أن يتوب إلى الله عز وجل.

وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي رحمه الله: كل منهما -أي: الغيبة والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة هل هي كبيرة أو صغيرة، ونقل الإجماع على أنها كبيرة، وقال آخرون: محله إن كانت في طلبة العلم وحملة القرآن، وإلا كانت صغيرة، يعني: أن بعض العلماء قالوا: إنها تكون كبيرة إذا كانت الغيبة في حق طلبة العلم أو حملة القرآن العظيم، وإن كانت في غيرهم فهي صغيرة.

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حبسك من صفية كذا وكذا)، يعني: هي تشير بيدها تريد أن تقصد أنها قصيرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)، هذه كلمة خلطت بماء البحر لتعكر منها ماء البحر، فهذا يدل على أن الغيبة من الذنوب التي يقول الإنسان فيها كلمة لا يلقي لها بالاً قد تهوي به في النار سبعين خريفاً، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أتدرون ما هذه الريح؟! هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين) وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)، فلو كشفت الحجب، وشمت ريح الذين يقعون في الغيبة؛ لظهرت منهم هذه الرائحة التي ظهرت في ذلك الوقت.

وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: (هاجت ريح منتنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناساً من المنافقين اغتابوا ناساً من المسلمين فبعثت هذه الريح لذلك).

وقد يعرض

السؤال

إذا كان في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ظهرت هذه الريح وتبينت، فما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتبين في يومنا هذا؟!

الجواب

لأن الغيبة كثرت الآن، وامتلأت الأنوف منها فلم تتبين للأنوف نتنها، ومثال هذا لو أن رجلاً دخل دار الدباغين الذين يدبغون الجلد، فإنه لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام ويشربون الشراب، ولا تتبين لهم الرائحة؛ لأنه قد امتلأت أنوفهم منها، وكذلك الغيبة في عصرنا شاعت جداً، فالناس يشتركون في تنفس الهواء المسموم، فما يكادون يحسون بنتن الغيبة.

وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)، يعني: كما أنه يتتبع عورات الآخرين يفضحه الله ولو في جوف بيته؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، وبلى) أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هذين الرجلين الميتين المدفونين يعذبان في قبريهما، فقال: وما يعذبان في شيء يكبر عليها أن يحترزا منه، بل هو بسبب معصية كانا يرتكبانها، وكان يسهل عليهما جداً أن يحترزا منها، ولم يكن يشق عليهما تركها؛ لأن الإنسان إذا نهي عن شيء فإنه قد لا يشق عليه تركه، وقد يفرض على الإنسان أن يترك بعض المعاصي كالمستلذات من الشهوات أو المطعومات أو المشروبات ويشق عليه تركها؛ لأنها مستلذة، فمن المنهيات ما يشق تركه كالمستلذات، ومنها ما ينفر الطبع منه كالسموم والنجاسات، فهذه الأشياء الإنسان ينفر منها بطبعه، ومن المنهيات التي لا يشق على الإنسان تركها: الغيبة، قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) قال بعض العلماء: يعني: في كبير في زعمكم أنتم، تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، ففي نظركم تستحقرون هذا الذنب، لكنه عند الله كبير وعظيم.

وقوله: (بلى) يعني: حقاً إنه كبير يعاقب الله عليه، وقد عاقبهما سبحانه في القبر بعد موتهما بسبب هذين الذنبين، ثم قال: (فأيكم يأتيني بجريدة؟! فاستبقنا فسبقته، فأتيته بجريدة فشقها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة، وعلى ذا القبر قطعة، قال: إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول) والغيبة معروف معناها، والبول المراد به: أنه كان لا يستنزه من البول، وكان يهمل أمر التطهر من البول.

وعن جابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتأذى من البول).

وصح عن قتادة رضي الله عنه قال: (ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث، ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة).

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس -يعني: أظفار نحاسية- يخمشون -يعني: يخدشون ويعذبون أنفسهم- يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل -يعني: غاب عن المجلس- فوقع فيه رجل من بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخلل -من التخلل وهو استعمال الخلال لإخراج ما بين الأسنان من بقايا الطعام- فقال: ومم أتخلل وما أكلت لحماً؟ قال: إنك أكلت لحم أخيك).

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يمتلئ بطنه، خير من أن يأكل لحم رجل مسلم.