للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الموقف الشرعي العملي من المبتدعة والعصاة]

لقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) فالدين يسر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة التميمي: (يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ...) وقال صلى الله عليه وسلم لقائمي الليل: (ليقم أحدكم ما استطاع، فإذا فتر عن ذلك فليقعد) إلى آخر الحديث، فكان ينكر على الغلاة حسب الحال وحسب الآثار التي تترتب على هذا الانحراف.

وعلى هذا فإننا نستحضر معنى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه مع العصاة يتلطف وينصح برفق، لكن مع المبتدعين يقسو عليهم أشد القسوة؛ لأن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية.

ففي الحديث: (أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام نادماً وذكر له ما فعل، فنزل قوله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:١١٤] فقال الرجل: يا رسول الله! ألي هذه؟ قال: لمن عمل بها من أمتي) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا في القتل وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:٦٨]، ونزل قوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]) فتجد في هذا الرفق والتلطف مع العصاة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه.

قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في المسجد) فتخيل الموقف! يبول داخل المسجد الذي هو أطهر بقاع الله، وفي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وبحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام وأمام الناس! قال: (جاء أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).

فتخيل لو أن هذه الحادثة حصلت الآن في زماننا، فماذا سيحصل من الناس؟ سترى الغلظة في التعامل، وبهذا ندرك الفرق بين رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على الأمة ورفقه بهم عليه الصلاة والسلام، وبين من ينتسبون إليه وهم لم يفقهوا بعد روح الإسلام من حيث السماحة واليسر والتلطف مع الناس حتى لو كانوا عصاة أو مخالفين، فقال لهم: (دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) فبين أن همهم بالوقوع في الرجل من باب التشديد المخالف لسماحة الدين ويسره، وبين لهم أن هذا البول يراق عليه دلو من الماء ويطهر بالمكاثرة، وبهذا علمنا أحكام النجاسات وكيف تزول النجاسة.

وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله.

فرماني القوم بأبصارهم، قال: فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) وانتهى الأمر، فانظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالصحابة! فلو أن واحداً اصطحب معه ابنه الصغير إلى المسجد فمعلوم أن هذا الطفل الصغير قد يلهو أو يبكي، فبمجرد أن ينصرف الإمام من الصلاة إذا بالأصوات ترتفع لدرجة أفظع بكثير من صوت هذا الصبي الصغير، ويحدثون ضوضاء أشد من ضوضاء ذلك الصبي الصغير المعذور، وهم غير معذورين.

وعلى أي الأحوال لا نستطيع أن ندرج كل صورة تخالف التيسير والسماحة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أنصح البشر للأمة على الإطلاق، فعلينا نحن -المسلمين- أن نتبعه في تسامحه وتيسيره ولا نتشدد؛ لأن الانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأشياء يعتبر تشدداً وتنطعاً وتطرفاً.

يقول المؤلف: وليست هذه الأحاديث إلا صوراً عملية لبيان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية معاملة العصاة والمخالفين، وإلا فالدين كله شاهد على أن العاصي لا يعامل بالتكفير، وإنما إن عوقب فأقيم عليه الحد فهو كفارة له وطهرة، وتطهير للمجتمع، ومن ستر الله عليه وتاب فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنفاً ولا متعنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) صلى الله عليه وآله وسلم.