للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حرص العلماء على حفظ السنة وإتقانها]

نختم الكلام بذكر قصة تعيننا على أن نكمل الحوار إن شاء الله فيما بعد، وهي تتعلق بشأن الشخص المتعالم، حين يأتي أحد الناس مثل الحمزة دعبس ويقول: عثرت على كتاب كله أدلة وعلم وكذا وكذا وينخدع بالعبارات الرنانة التي يمتدح بها الكاتب بحثه، وأن كلامه مليء بالأدلة واتباع القرآن والسنة واحترام السلف واحترام العلماء.

وكم من فقيه خابط في ضلالته وحجته فيها الكتاب المنزلُ فالاستدلال بالعمومات يستطيعه كل أحد، وليس هذا هو المحك؛ لأن هذا لا يعجز عنه أحد، فنجد كثيراً من الناس لا علم عندهم يفتنون بمثل هذا الباطل.

يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله: المتعالم محل إعجاب من العامة، فالعامي يغتر إذا سمع المتعالم يجيش بتعالمه الكذاب المحروم من الصدق، وقوفاً عند حدود الشرع.

وترى العامي يضرب بيمينه على شماله تعجباً من علمه وطرباً، بينما العالمون يضربون بأيمانهم على شمائلهم حزناً وأسفاً من انفتاح باب الفتنة والتغرير بعدة المستقبل بله العوام، فأضحى لزاماً أن نقابل مجاهرتهم هذه بالمجاهرة -لكن بالحق- لكشف باطلهم، وإسقاط تنمرهم، والعمل على هدايتهم واستصلاحهم.

والقصة التي نختم بها الكلام هي قصة الإمام البخاري رحمه الله حين امتحنه أهل بغداد؛ لأن لها مناسبة، حيث إن الكاتب في بداية البحث زعم أنه يتشبه بالإمام البخاري، حيث يقول: أنا حرصت على أن أقتدي بالإمام البخاري، فقبل أن أثبت أي شيء في الكتاب أصلي ركعتي الاستخارة، وحافظت على الوضوء في كل الفترة التي كتبت فيها البحث! فإن كان يدعي التشبه بـ البخاري فنريد أن نعرفه بعلم البخاري، ونذكر هذه القصة بمناسبة الكلام السابق للشيخ بكر حفظه الله فالإمام البخاري حينما أتى إلى بغداد أراد أهل بغداد أن يمتحنوه؛ لأنهم كانوا يسمعون عن الإمام البخاري أنه من الحفاظ، فاجتمع حشد هائل من العوام ومن العلماء في هذا الامتحان المفاجئ للإمام البخاري رحمه الله تعالى، فوقف العلماء في جهة والعوام في جهة، واختار العلماء عشرة منهم، وكل واحد من العشرة أعدّ عشرة أحاديث بالسند والمتن فأصبحت مائة حديث، وأخذوا يركبون سند حديث على متن حديث آخر، ويقدمون ويؤخرون بين رجال السند، وهكذا، بحيث أصبح اختباراً دقيقاً جداً لا يمكن أبداً لأي إنسان عادي أن يكتشفه.

فجلس الإمام البخاري رحمه الله لهذا الامتحان، فوقف العالم الأول، وسرد للبخاري العشرة الأحاديث، فكان كلما قرأ عليه حديثاً يقول له البخاري: لا أعرفه.

ثم الثاني فيقول: لا أعرفه.

ثم الثالث فيقول: لا أعرفه.

وهكذا حتى أتموا المائة حديث.

وكان العوام كلما قال الإمام البخاري: لا أعرفه يقولون: البخاري هذا جاهل وليس بعالم، فإنه لا يعرف شيئاً؛ إذ كلما يقرأ عليه حديث يقول: لا أعرفه! فكان يزداد انتقاصاً في نظر العوام ويزداد ارتفاعاً في عيون العلماء، ولم يتكلم أحد من الفريقين، بل كلاهما متعجب.

العوام يتعجبون -في نظرهم- من جهل البخاري -وحاشاه رحمه الله- والعلماء يتعجبون من علمه وقوة حفظه.

فلما فرغ العلماء العشرة من سرد الأحاديث المائة-حيث سرد كل واحد منهم عشرة أحاديث- رجع البخاري فوراً إلى الأول وقال له: أما أنت فقد قلت كذا وكذا.

وسرد له العشرة الأحاديث بأخطائها ثم قال: وصوابها كذا وأعاد العشرة الأحاديث مرتبة بالتصويبات، ثم الثاني والثالث حتى أتم المائة يذكر فيها البخاري الخطأ ثم الصواب حديثاً حديثاً، فانبهر العلماء من قوة حفظه وإتقانه للحديث.