للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سد ذريعة الشرك بالله جل جلاله]

أما علة التحريم فلأنّ اتخاذ الأصنام والتماثيل ذريعة لعبادتها من دون الله تبارك وتعالى، وطريق للغلو فيها وتعظيمها، وهذا الذي وقع بالفعل، فقد كانت أول ذريعة لوقوع الشرك في بني آدم ما ذكر في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:٢٣].

قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كان يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم.

ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت هذه التماثيل.

وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا فليتبع كل أناس ما كانوا يعبدونه، فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون).

قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨].

يقول الإمام ابن القيم: وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

فهؤلاء القوم -كما يقول بعض العلماء- اجتمع فيهم الفتنتان: فتنة التماثيل وفتنة القبور.

والفتنتان جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح -أو الرجل الصالح- بنوا على قبره منزلاً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى).

وعن مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:١٩] قال: كان اللات رجلاً صالحاً يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره.

وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.

فتعظيم القبور واتخاذ التماثيل كان -بلا شك- هو الذريعة إلى عبادتها من دون الله.

يقول الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى: والذي أوجب النهي عنه في شرعنا -والله أعلم- ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب، فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)، وفي رواية: (الذين يشبهون بخلق الله) فعلل بغير ما زعمتم -يعني: أن العلة علة أخرى، وهي مضاهاة خلق الله-! قلنا: نهى عن الصورة، وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله، فنبه على أن نفس عملها معصية، فما ظنك بعبادتها؟! وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسر، وأنهم كانوا أناساً، ثم صوروا بعد موتهم وعبدوا، يقول الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وكسوه بزته إن كان رجلاً، وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب، فإذا أصاب أحداً منهم كرب، أو تجدد لهم مكروه فتح الباب عليه، وجلس عنده يبكي ويناديه بكان وكان.

حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه، ثم يغلق الباب عليه وينصرف عنه.

وإن تمادى بهم الزمان عبدوها من جملة الأصنام والأوثان.

إذاً العلة الأولى هي سد الذريعة إلى عبادتها من دون الله.