للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذم الحسد في كلام السلف]

ثم إن الحسد من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام، ولكل حريق مطفئ لكن نار الحسد لا تطفأ.

وآفات الحسد قذائف في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب.

والحسد أول معصية وقعت من الخلق، فقد حسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، ويكفي الحاسد أنه شارك إبليس في الحسد، وفارق الأنبياء في حبهم الخير لكل أحد.

والحاسد أيضاً قد سخط قضاء الله وقدره، فكره نعمته على عباده، لذلك الحسد سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، وهذا قذى في بصر الإيمان، ولا يحصل صاحبه إلا الندم، وفوات الثواب، وغضب رب الأرباب.

والحاسد ساخط على قضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، وذلك لا عذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟! فالحاسد يكره نعمة الله على أخيه، وهذه النعمة لا تؤذيه هو، فيقول بعض العلماء: أي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟! ولذلك قال منصور الفقيه: ألا قل لمن ظل لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه لأنك أنت لم ترض لي ما وهب فجازاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب والحسد تنافس في الدنيا، وهي لا تعدل عند الله جناح بعوضة.

قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) لكن لأنها أحقر عند الله من جناح بعوضة لم يأخذوا فقط شربة الماء، وإنما أعطاهم من الدنيا ما تعلمون، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة:٢١٢] فلا وجه فيها للمنافسة عند العقلاء، والحاسد إنما يحسد الناس على الدنيا وحطامها.

وأما قوَّام الليل وصوَّام النهار فلا يحسد، وهذه الدنيا ما هي إلا هموم وغموم متلاطمة، وحساب وعذاب، وهي ترة وتراب، وبوار وخراب.

قال ابن سيرين رحمه الله تعالى: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ يعني: أن الإنسان أحد رجلين: إما مؤمن صائر إلى الجنة، وإما كافر صائر إلى النار، فإن كانت النعمة مع مؤمن وهذا المؤمن صائر إلى الجنة فكيف أحسده؟! وكيف أتمنى زوال هذه النعمة عنه؟! وهو سوف يحصل أعظم نعمة، وهي الجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى، فكيف يحسده وهو صائر إلى الجنة أعظم نعيم ولا يقدر أن يزيله عنه؟! وإن كان كافراً أعطي هذه النعمة فكيف يحسده على نعمة وهو صائر في النهاية إلى النار؟! فلا يستحق أصلاً أن يحسد.

أيضاً: الحسد قد يحمل صاحبه على إطلاق لسانه في المحسود بالشتم والتحيل على أذاه.

قال الحسن رحمه الله: يا ابن آدم! لمَ تحسد أخاك؟! فإن كان الله أعطاه لكرامته عليه فلمَ تحسد من أكرمه الله؟! وإن كان غير ذلك فلمَ تحسد من مصيره النار؟! قال بعض العلماء: منافسة الفتى فيما يزول على نقصان همته دليل ومختار القليل أقل منه وكل فوائد الدنيا قليل أيضاً: الحاسد لا يزال في غم وألم ونكد؛ لأن الحسد داعية النكد.

قال بعض العلماء: الحسد جرح لا يبرأ، وحسب الحسود ما يلقى.

أي: حسبه من العذاب ما يعذب هو به نفسه.

قال بعض العلماء: دع الحسود وما يلقاه من كمده كفاك منه لهيب النار في جسده إن لمت ذا حسد نفست كربته وإن سكت فقد عذبته بيده وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك).

وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم، وتعس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي.

وقال بعضهم: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد؛ فإنه يرى النعمة عليك نقمة عليه.

قل للحسود إذا تنفّس طعنة يا ظالماً وكأنه مظلوم أيضاً: الحاسد يسميه العلماء عدو نعمة الله عز وجل، فهو جهول ظلوم، ليس يشفي غلة صدره ويزيل حرارة الحسد من قلبه إلا زوال النعمة، فحينئذٍ يتعذر الدواء أو يعز.

وكل أداويه على قدر دائه سوى حاسدي فهي التي لا أنالها وكيف يداوي المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها وقال معاوية رضي الله عنه: (كل الناس أقدر على رضاهم إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها).

كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لا تعادوا نعم الله.

قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).

وفي بعض الكتب: الحقود عدو نعمتي، متسخط لقضائي، غير راضٍ بقسمتي.

كذلك يقولون: الحسد عدو عادل منصف، وهذا كما قال بعض الشعراء: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله وهذا مثال يقول: (من حفر حفرة لأخيه وقع فيها).

قيل لبعضهم: ما بال الحسود أشد غماً؟ قال: لأنه أخذ بنصيبه من هموم الدنيا يضاف إلى ذلك غمه لسرور الناس.

وهنا قصة نشير إليها تجسد مبدأ من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، وهي محكية في بعض الكتب: قال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر، يعني: أنه تصدر من فمه رائحة كريهة، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعوه إليك فإن دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فقام الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك على عادته، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فقال له الملك: ادن مني، فدنا منه، فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم.

فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا قد صدق.

قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتاباً إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً، وابعث به إلي، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل، فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، فقال: إن الكتاب ليس هو لي فالله الله في أمري حتى تراجع الملك.

فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه، وحشا جلده تبناً وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال: لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له، فقال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلت ذلك.

قال: فلمَ وضعت يدك على فيك؟ قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.