للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحسد من أخلاق الكفار واليهود]

وقد بين الله سبحانه وتعالى التناقض بين خلق الحسد وبين صفة الإيمان في كثير من آيات القرآن، وذكر أن الحسد من أخلاق الكفار، فقال سبحانه وتعالى في شأن المشركين من أهل الكتاب: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:١٠٩]، إذاً: الحسد خلق من أخلاق الكفار من أهل الكتاب، حيث حسدوا المؤمنين على أعظم نعمة، وهي نعمة الإيمان.

أيضاً: الحسد من أخلاق المشركين، قال الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤] قال المفسرون: هذا عام أريد به خصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:١٧٣] فالمقصود بالناس في قوله: (الذين قال لهم الناس) نعيم بن مسعود فهنا كذلك قوله: ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)) أي: بل أيحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله؟ أي: من نعمة الوحي والرسالة، وفي الحديث: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين) رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها.

إذاً: الحسد من أخلاق اليهود، والحسد كذلك من أخلاق المنافقين، فقد قال الله عز وجل في شأنهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:٨٩]، وقال عز وجل: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة:٥٠].

فهذا كله يؤيد هذا المعنى الذي ورد في آخر الحديث: (ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد)، فيوجد الحسد لكن مع الكفر، سواء كفر المشركين أو كفر أهل الكتاب أو كفر المنافقين والعياذ بالله! أما المؤمن فليس من خلقه أن يحسد عباد الله سبحانه وتعالى، وبتعبير آخر نستطيع أن نقول: إن المؤمن الكامل الإيمان لا يحسد، فمن وقع منه الحسد فقد وقع في محرم حرمه الله سبحانه وتعالى عليه.

قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد! هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب لا أبا لك! حيث حسدوا يوسف، ولكن غم الحسد في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم يعدو لسانك، وتعمل به يدك.

يعني: إذا وجد الإنسان شيئاً من هذا فليجاهد نفسه، فإنه ليس محرماً عليه في هذه الحالة، وهذا من جهاد النفس، فإذا راودته نفسه على الحسد، وتمني زوال النعمة عن أخيه المؤمن، فعليه ألا يستسلم لذلك، ولا يسترسل معه، بل يجاهد نفسه، حتى يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ} [الفلق:٥].

قال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:١ - ٥] هذا الأخير هو المستعاذ منه في هذه السورة.

فقيد الله سبحانه وتعالى شر الحاسد بقوله: ((إِذَا حَسَدَ))؛ لأن الحاسد قبل توجهه إلى المحسود بالحسد لا يتأتى منه شر، فلا محل للاستعاذة منه، لكن يستعاذ منه ((إِذَا حَسَدَ))؛ لأنه ربما يكون هناك إنسان متصفاً بهذه الصفة، لكنها كامنة فيه فلا تخرج، ولا يصدر منه هذا الحسد إلا إذا توجه نحو المحسود، فيقع حينئذٍ الحسد، ومن ثمَّ قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:٥] يعني: حال حسده لغيره.

ولهذا أيضاً: نفس العقد لم يقل الله سبحانه وتعالى: (ومن شر ساحر إذا سحر)، لكن قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:٤]؛ لأن النفث في العقد هو عين السحر، ونفس ممارسة السحر يكون بالنفث في العقد، فتكون الاستعاذة من الساحر واقعة موقعها عند سحره الواقع منه بنفثه في العقد.

فالرجل قد يكون عنده حسد، ولكنه يخفيه، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك، فقد يجد في قلبه تمني زوال نعمة الغير، لكنه لا يسترسل مع هذا التمني، ولا يعامل أخاه المسلم بما لا يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى، فالقوة الكامنة في قلبه قد تنبعث إذا نشطها واسترسل معها.

لكن إذا وجدت هذه القوة بأي نوع من الشرور في قلب الإنسان فإنها تمنيه لأي شيء من الحرام، لكنه لا يسترسل معها، وإنما يجاهد نفسه ويحبسها، ولا يطيعها ولا يأتمر لها، بل يعصي هواه طاعة لله، وخوفاً وحياءً من الله، وإجلالاً له سبحانه وتعالى أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله، أي: يرى أنه إذا وقع في حسد أخيه فهذه معصية ومخالفة لله، وبغض لما يحبه الله، ومحبة لما يبغضه الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها بالدعاء للمحسود، وتمني زيادة الخير له، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد، فرتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا هو الحسد المذموم، وهذا كله هو تمني زوال النعمة عن الغير.

قال الألوسي: الحسد الغريزي الجبلي إذا لم يعمل بمقتضاه من الأذى مطلقاً، بل عامل المتصف به أخاه بما يحب الله تعالى مجاهداً نفسه، لا إثم فيه، بل يثاب صاحبه على جهاد نفسه، وحب معاملته أخاه ثواباً عظيماً؛ لما في ذلك من مشقة مخالفة الطبع كما لا يخفى.

فإذا وجد الإنسان شيئاً من ذلك فلا يطيع هواه، ولكن يجاهد نفسه.

هذا هو الحد الذي يمكن أن يقع من المؤمن، لكن عليه أن يطرده من قلبه، ويحب لأخيه الخير، ولا يقع في تمني زوال نعمة الله سبحانه وتعالى عليه.

إذاً: الحسد حرام على المؤمن، وستأتي الأدلة أيضاً مفصلة في ذلك، بل من العلماء من عده من كبائر القلب، وكبائر القلب أشد وأخطر وأعظم من كبائر الجوارح، فيحرم الحسد على المؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان الكامل عن الذي يحسد، فقال: (ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد).

فهذا مما يدل على وجوب تنقية المؤمن قلبه من أن يجامع إيمانه الحسد.