للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اختلاف الحكم الشرعي على تحديد النسل في الحالات الفردية عنه في الحالات العامة]

كل الكلام الذي مضى فيما يتعلق بتحديد النسل أو العزل أو غيره من الوسائل، إذا قلنا بجوازه مع الكراهة، وبشرط عدم وجود الضرر، كل ذلك إنما هو رخصة يتمتع بها آحاد الناس، أما تحديد النسل بمعنى تبني نظام عام، يلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حد معين، بلا فرق بين من تحتاج إلى ذلك بسبب مرض أو رضاعة، ولا بين ضعيف ولا قوي، بل حتى ولا بين غني وفقير! فلا؛ فهم يشوشون على الناس ويقولون: الفقير لا بد له من تحديد النسل، فنقول: فما بالكم بدعوتكم أيضاً الموجهة إلى الأغنياء والقادرين على النفقة! فكون الأمة كلها برمتها تتجه إلى هذا الاتجاه، فإن هذا سيكون له شأن آخر.

فكل ما سبق ليس له علاقة بالمجتمع كله، من حيث هو هيئة تركيبية يمثلها الحاكم، أو الدولة، فالدولة لا تستطيع أن تفيد شيئاً من أحكام الجواز في هذه المسألة، ولا يحق لها أن تعتمد على هذه الأحكام في أي إجراء تتخذه؛ فإن هذه أحكام خاصة بآحاد الناس، فالدولة ليست هي صاحب العلاقة المباشرة في الموضوع، وليست لها أي سلطة أو ولاية على شيء من أركانه؛ لأن هذه العلاقة خاصة.

فمثلاً: موضوع العزل أو تحديد النسل، هذا شيء خاص بالزوج والزوجة فقط، بالشروط التي أشرنا إليها، لكن الدولة ليس لها أن تتدخل في هذه العلاقة الخاصة، بحيث تحمل أحداً على شيء معين.

ومثال ذلك: الطلاق، فإنه حق أعطاه الشارع للرجل أو لصاحب العلاقة الذي يملك عقد الزواج بشروط وقيود معروفة، وليس للدولة أن تفرض لنفسها صلاحية -مثل حق تطليق المرأة من زوجها- على من تشاء من الناس، أو تجبر أحداً على الطلاق، أو توقع هي الطلاق عندما تجد مصلحة تقتضي ذلك، وحال هذه القضية كقضية تحديد النسل، فهي تعود إلى الشخصين اللذين يمثلان أركان القضية، فليس للحاكم أن يحتج بحالة يريد الشارع فيها للزوجين العمل على تحديد النسل، فيبني عليها دعوة عامة إلى ذلك، ويثير الدوافع والمرغبات، بل يشرع الالزامات الأدبية بالوسائل المختلفة.

ونحتاج إلى تمهيد يسير قبل أن نتم هذه النقطة، وهو: أن المباح في الشريعة نوعان: نوع يتفق مع حكم الأصل، مما ينطوي على فائدة ومصلحة عامة.

مثل: التمتع بالطيبات وتناول المباحات التي لا ضرر فيها، فالإباحة هنا ليست خاصة، وليس خاصاً بالفرد أن يقضي شيء بنفسه، بل يقضي به الحاكم لمجتمعه إذا شاء دون إلزام، إلا في حدود المصلحة العامة.

ونوع آخر من المباحات لا يتفق مع حكم الأصل، بل يشذ عن حكم الأصل والقاعدة والإباحة الأصلية العامة، لكن يدخله حكم الأصل أو الترخيص أو الإباحة، من أجل عارض يتعلق بأشخاص بأعيانهم، فالعزل والإباحة يبقى خطاً في نطاق هؤلاء الأشخاص الذين تعلقت بهم أحوال اقتضت التخفيف في أمر كان في أصله غير مباح، دون أن يتجاوز إلى غيرهم.

فالنكاح -كما سبق- شُرع أصلاً من أجل النسل، فالحكمة: بقاء النوع الإنساني، قال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا، تناسلوا، تكاثروا؛ فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة).

فالسعي إلى إيقاف النسل أو تقليصه مُنافٍ لأصل ما شرع النكاح من أجله، ولكن الشارع الحكيم رخص للزوجين في محاولة جزئية وفردية الحد من النسل؛ نظراً لظهور المصالح الشخصية التي قد تكتنفهما أو تكتنف أحدهما.

أما الحكم العام فقد بقي على أصله، وهو المنع، والحاكم العام هو الأمين على ذلك.

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: اعلم أن المباح ضربان: أحدهما: أن يكون خادماً لأصل ضروري أحادي أو تكميلي.

والثاني: ألا يكون كذلك.

فالأول: قد يراعى من جهة ما هو قابل له، فيكون مطلوباً ومحبوباً فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء، وهو خادم لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب، فالأمر به راجع إلى حلقات الكلية، لا إلى اعتبار جزئي.

والثاني: إما أن يكون خادماً لما ينقض أصلاً من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادماً لشيء كالطلاق، فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكل إقامة النسل في الوجود.

يعني: أن الطلاق ترك للزواج، والزواج هو وسيلة من أجل تكثير النسل، فالطلاق في حد ذاته بالنسبة للمجموع هو مضاف في مصلحة المجموع، لكن هو بالنسبة للشخص الذي أبيح له الطلاق قد يكون ضرورياً؛ فقد لا يستطيع الإنسان أن يعيش مع زوجته، فلمصلحة فردية يباح له الطلاق، لكن لا يباح للمجتمع كله، فلا يصح أن نعمل دعوة قومية إلى الطلاق، ونعمل إعلانات ودعايات في كل مكان، وأن نبشر الناس بهذا وندعوهم ونحرضهم عليه.

وقد يعبر عن هذا المعنى الذي ذكرناه بقول العلماء في بعض القواعد الفقهية: (ليس كل ما هو مشروع للفرد مشروع للجماعة) وهذه القاعدة تتفرع عن قاعدة أهم، وهي: (تصرف الحاكم منوط بالمصلحة) أي: أن الحاكم وكيل عن الأمة في رعاية مصالحها، فعليه ألا يغامر بمصالحها، بل يحتاط في الأمر بالنسبة لها، فالناس كآحاد ممكن أن يغامر الواحد منهم لمصلحته، لكن الحاكم من حيث هو حاكم لابد أن يراعي مصلحة المجموع؛ فما يشرع للفرد قد لا يشرع للجماعة.

مثال ذلك: أن لأي فردٍ من الناس أن يقتدي في صلاته بفاسق إذا شاء ذلك، غير أن الحاكم لا يجوز له أن يعتمد على هذا الحكم بحجة أن الفقهاء قالوا بأنه يجوز أن يُصلى خلف الفاسق.

فيقوم الحاكم بتعيين إمام فاسق للناس، ليس له ذلك لأن الحاكم يقدر على أن يغير، فهو لا يباح له ما يباح لآحاد الناس.

أيضاً: ولي المقتول يملك أن يعدل عن القصاص إلى الدية، لكن الحاكم لا يملك مثل هذا الحق، ولا يستطيع أن يلزم ولي المقتول بمثل هذا.

وحينما يعطي الشرع الزوجين الحق بإيقاف النسل أو يمنعهما منه فإنما ذلك لمصلحة تتعلق بهما، ولأمر عائد إليهما، وقد يكون المجتمع شريكاً لهما في المصلحة بعض الأحيان، فتعميم الدولة حكم الإباحة أو الحظر هجر لمصلحة الأفراد، وتجاوز لواجب الحيطة في رعاية أمر العامة، ولو أن هؤلاء الذين يفتون الحكام بالدعوة إلى تحديد النسل تنبهوا إلى هذه القاعدة لعلموا أنهم مبطلون فيما يفعلون، وأنهم أخذوا حقاً أعطاه الله للأفراد أصحاب العلاقة فملكوه من لا حق له في امتلاكه أو التصرف به.