للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استمراء كثير من المسلمين لدعوى تحديد النسل ورضاهم بها بعد إنكارهم لها]

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، فمن أعظم مقاصد النكاح تكثير النسل المسلم، وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.

وفي لفظ: (فإني مكاثر بكم الأنبياء).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً -أي: كان الرجل عقيماً- فقال له عمر: أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلِمْها، ثم خيِّرها.

يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: إن غريزة الامتداد في الذرية والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتةًَ كريمة تتعاهدها بالتربية والتهذيب، فتحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلِّك.

يقول الدكتور الصباغ حفظة الله: ويكفي للممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم وتنتهي به! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وبعض العلماء يجعل هذا الحديث في سياق المدح، لكن على القول بأن المقصود بالسحر هنا الذم فهو مأخوذ من البيان والبلاغة في تزيين الباطل، وتضييع الحق، فلا شك أن هذا من أخطر أنواع السحر، وقد يسلط في هذا الزمان على المسلمين، وبعض الناس إذا حاورته في هذا الموضوع فأول ما يتبادر إلى ذهنه أنك إنسان مخبول؛ إذ كيف تتكلم في قضية مقررة ومسلمة، فكل الناس ينادون بتحديد النسل، وكل الناس يعانون من الفقر والضيق و، ويوجد بيننا الآن من يقول بخلاف ما عليه الناس!! وهذا كله من تأثير هذا السحر المحرم الذي هو: تزييف الحق وإظهاره في صورة الباطل، فسحر البيان هو الذي تسلطه أجهزة الإعلام على عقولنا وقلوبنا؛ لتصوغ منه مفاهيم جديدة، وأموراً تتضاد مع ديننا وشريعتنا وعقولنا، بل ومع فطرتنا، ومما يدل على ذلك أن تأثير هذه الدعاية بلغ إلى حدٍّ جعل الناس يظنون أن من يتكلم في مثل هذه الأمور مخبول أو جاهل! ولو رجعنا إلى المجلات الإسلامية التي كانت تصدر في بدايات ظهور هذه الدعوة، حيث كان في الأمة بقية من الوعي وعدم التخدير بالإعلام، تجد هجوماً عنيفاً جداً بمنتهى القوة والصراحة من كافة علماء المسلمين، ابتداءً من شيخ الأزهر إلى الدعاة والعلماء والباحثين، فلو رجعنا إلى أعداد قديمة من مجلة الإسلام سوف نجد مثل هذه المقالات، حيث كان العلماء يواجهون هذه الدعوة بمنتهى العنف، ويكشفون أنها دعوة خبيثة يرعاها أعداء الإسلام لأمر يريدونه بهذه الأمة، ثم مر الوقت رويداً رويداً حتى استقرت في الأمة هذه السموم، وهضمتها وامتصّتها، وصارت تجري في جسدها مجرى الدم في العروق.

وصار كثير من المسلمين ينظرون إلى الأمور بمنظار الغرب، وبمنظار الكفار الخبيثين، ولم نكتفِ في (عقدة الأجنبي) بأن استوردنا إنتاج الزراعة والصناعة منهم، وإنما أخذنا أيضاً نتاج أفكارهم ومقاصدهم الخبيثة بنا، وكثير من الناس مولعون بتقديس كل ما يأتي من جهة الغرب، فصاروا يحبون الغرب وكل ما يأتي به الغرب، كما قيل في الخمر: مضى بها ما مضى من عَقْل شاربها وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي فإرضاء الغرب لم يقف عند حد، لكنه يضل خطوة وراء خطوة، ويستدرج الناس شيئاً فشيئاً، حتى ينخلعوا عن دينهم مصداق قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:١٢٠]، فقوله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:٢١٧].

وقد بلغ تأثير الإعلام في نفوس الناس وفي فطرتهم إلى حد تنكس المشاعر الفطرية لدى الآباء والأمهات -كما أشرنا من قبل- حتى إن الأم إذا بان حملها جزعت جزعاً قد يوازي جزع الأم الحنونة التي ثكلت ولدها ليس لها ولد غيره، وربما سعت للتخلص من هذا القادم الجديد الذي يريد أن يحتل له مقعداً على مائدة الحياة.

لقد تمكن الإعلام الذي يسمونه: الموجه -وهو موجه في الحقيقة- من تأصيل الشعور بالرعب والهلع ومن تأصيل الخوف من الانفجار السكاني وأنه شبح مخيف يهدد الحياة على وجه الأرض، ويوشك أن يقوض الأمة ويبقيها خراباً يباباً، سخرت كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لاستنفار الناس كافة إلى الاقتناع والتسليم بحسمية تحديد النسل على أعلى المستويات، حتى أن كثيراً من الناس لا يكادون يتكلمون في موضوع ما إلا وقفزوا منه إلى الحديث عن موضوع تحديد النسل وأنه الوحش والغول الذي يهدد الأمة، وكأن هذه القضية درس لا بد أن يلقن للأمة، ولا بد لها أن تنفذ هذه التوجيهات.

لقد سخرت جميع الجمعيات والهيئات الخيرية والمراقص من أجل خدمة هذا المبدأ! فلا يستغرب هذا المسلك العلماني من إعلام لا دين له، لكن الغريب أن يحاول توظيف الدين وتسخير علمائه من أجل أداء هذه المهمة، والأغرب أنه نجح في توظيف كثير من هؤلاء في خدمة هذه السياسات التي تنافي سياسات الإسلام والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، بينما فشل فشلاً ذريعاً في ذات الوقت في أن يستدرج واحداً من عُبّاد الصليب كي يؤلف مقالة أو يكتب كتاباً، أو يقوم بأي نوع من الدعاية لهذا المبدأ الكنسي الخطير، بل على العكس نجد الأنشطة في داخل الكنائس تحظر وتحرم وتجرم وتهدد من يقوم بتحديد النسل من هؤلاء النصارى، وتعليمات الأطباء النصارى ألا يشرعوا في تعقيم أي امرأة نصرانية.

فهو نجح في استدراج بعض هؤلاء الشيوخ الذين ساروا في ركابه، وصاروا يباركون جهوده باسم الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطر أن كل هذا يتم باسم الإسلام! فلو تكلموا بغير اسم الشريعة لكان الخطب أهون، ولو أنهم سكتوا وما نطقوا لكان أسهل وأحسن، بل لو أنهم سطعوا بالحق إيماناً واحتساباً لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً!