للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب]

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لقد ثبت عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)، رواه الطبراني في المعجم الكبير وابن عدي وغيرهما، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.

وقد ذكر العلماء أن معالي الأمور هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية، لا الأمور الدنيوية؛ فإن العلو فيها مذموم في شرع الله سبحانه وتعالى.

فكل ما له علاقة بالدين فهو من معالي الأمور، أما أمور الدنيا فهي سفسافها ودناياها.

قوله: (ويكره سفسافها): السفاسف واحدها السفساف، والسفساف هو الأمر الحقير والرديء من كل شيء، وهو ضد المعالي والمكارم، وأصل السفساف ما يطير من غبار الدقيق إذا نُخل، والتراب إذا أُثير، فهذا هو السفساف.

كذلك السفساف من الشعر رديئه.

ويقال: أَسفّ إذا تتبع مداقّ الأمور، فهو يتتبع الأمور الدقيقة التافهة وطلب الأمور الدنيئة.

فإذا عرفنا معنى السفساف في اللغة، فيجب أن نعلم أن كل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ليس من السفاسف مطلقاً، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤]، وأن كل ما فَعَله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أمر به أمر إيجاب أو استحباب فهو من معالي الأمور، وكل ما نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام نهي تحريم أو كراهة فهو من السفاسف، وتركه يعتبر من أمور الدين ومن معالي الأمور، وكل ما تكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بحيث صار من الدين فلا يجوز أن يوصف بأي وصف يوهم بالإغراء أو التنقّص، وإلا فقد أعظم على الله الفرية، وعرّض نفسه لغضب الله عز وجل وعقوبته وانتقامه! نعم هناك في قضايا الدين أصول وفروع، وكلّيات وجزئيات، وهناك أهم ومهم، لكن ليس موضوع حديثنا هو مناقشة أولويات الأمور وأهميتها، بل نريد أن نتكلم عموماً عن كل أمور الدين، حيث أن كل ما كان من أمور الدين وإن دقّ فهو من المعالي، ولا يمكن أن يُحتقر أو يوصف بالسفاسف أو بغير ذلك من الأوصاف الرديئة.

ولذلك اشتد نكير العلماء على من أطلق مثل هذه العبارات الفجّة في حق مسائل الدين وأمور الشريعة، بل إن منهم من أفتى بزجره وتأديبه، ولاسيما هذا التعبير المحدث، والمصطلح الدخيل، وهو تقسيم أمور الدين إلى قشور ولباب، أو إلى قضايا مهمّة وقضايا حقيرة ودنيئة، إلى غير ذلك من هذه العبارات الدخيلة!! ومن المعروف أن هذا من مصطلحات الصوفية، حيث إنهم يقسّمون الدين إلى شريعة وإلى حقيقة! وقد سُئل سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: هل يجوز أن يقول المكلف: إن الشرع قشر وإن الحقيقة لُبّه، أم لا يجوز؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يجوز التعبير عن الشريعة بأنها قشر؛ من كثرة ما فيها من المنافع والخير، ولا يكون الأمر بالطاعة والإيمان قشراً؛ لأن العلم الملقب بعلم الحقيقة جزء من أجزاء علم الشريعة، ولا يُطلقِ مثل هذه الألقاب إلا غبي شقي قليل الأدب، ولو قيل لأحدهم: إن كلام شيخك قشور، لأنكر ذلك غاية الإنكار، ويطلق لفظ القشور على الشريعة، وليست الشريعة إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيُعزَّر هذا الجاهل تعزيراً يليق بمثل هذا الذنب.

وقال الإمام العلامة تقي الدين السبكي في مقام ردّه على من أباح السماع والغناء: وقولهم: "من أهل القشور".

إن أرادوا به ما الفقهاء عليه من العلم ومعرفة الأحكام، فليس من القشور، بل من اللبّ، ومن قال عليه إنه من القشور، استحق الأدب، والشريعة كلها لُباب.