للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لفظ الجلالة اسم مشتق غير جامد]

بقي تنبيهات يسيرة تتعلق باسم الله الأعظم وهو لفظ الجلالة (الله)، هل هو مشتق أم أنه اسم جامد؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين أصحهما أنه مشتق، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: زعم السهيلي وشيخه ابن العربي أن اسم الله غير مشتق، قالوا: لأن الاشتقاق يستلزم ندبةً يشتق منها، واسم الله تعالى قديم والقديم لا ندبة له، فيستحيل الاشتقاق.

يقول ابن القيم مبطلاً هذا الرأي: ولا ريب أنه إن أريد الاشتقاق لهذا المعنى، وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل، إن أريد بالاشتقاق أنه يتولد من غيره فهذا باطل بلا شك، ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يقصدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم، وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، العليم، والقدير، والغفور، والرحيم، والسميع، والبصير، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي أسماء قديمة، والقديم لا ندبة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله.

ثم إننا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، تلاقي وتوافق مصدرها في اللفظ والمعنى لا أكثر، فهذا هو المقصود بالاشتقاق، لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله، وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة.

قالوا: ولا محذور في اشتقاق اسم الله أو أي اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى، إن هذا هو أصل مادة الكلمة، وليس معناه أنه أجرى له التولد من غيره، فإذاً: هذا المحذور الذي ذكروه يسقط بهذا الاعتبار.

أما أصل كلمة: (الله) في اللغة فقد قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: مأخوذ من (إله) وتقديرها فُعلانية بالضم، تقول: إله بين الآلهة والأُلهانية، وأصله: من أله يأله، يعني: إذا تحير، يريد إذا وقع العبد في عظمة الله سبحانه وتعالى وجلاله وغير ذلك من صفات الربوبية، وصرف همه إليها أبغض الناس حتى لا يلين قلبه إلى أحد.

قال أبو الهيثم: فالله أصله إله، قال الله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:٩١]، قال: ولا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً، وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله وإن عبد ظلماً، ما مناسبة كلمة (ظلم) هنا؟ الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، ولذا جعل الله الشرك ظلماً قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣].

فوضع العبودية في غير موضعها ظلم، لأنه لم يوجهها إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما وجهها إلى الأنداد.

فإذاً: يقول: ولا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون هذا الإله لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً، وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله وإن عبد ظلماً، بل هو مخلوق ومتعبد، حتى إن حصلت العبادة لغير الله فهو ظلم؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها اللائق بها.

وأصل كلمة (إله) وله، فقلبت الواو همزة فصارت إله، كما قالوا: أصل كلمة (إيجاد) وجاد، ومعنى وله: أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كل ما ينوبهم كما يوله كل طفل إلى أمه.

وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها: إلهاً، وقد ضعف الزجاج هذا القول، وقال ابن سيده: والإله والألوهة والألوهية العبادة، وقد قرئ في قوله تعالى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:١٢٧] هذه قراءة الجمهور، لكن قرأ ابن عباس: (ويذرك وإلهتك)، يريد: وعبادتك.

إذاً: قراءة ابن عباس: (ويذرك وإلهتك) بكسر الهمز أي: ويذرك وعبادتك، وهذه القراءة الأخيرة عند ثعلب كأنها هي المختارة، وثعلب لما اختار هذه القراءة التي هي: (ويذرك وإلهتك)، قال: لأن فرعون كان يُعبد ولا يعبد، فهو على هذا ذو إلهة وليس هو آلهة، وعلى قراءة الجمهور: (ويذرك وآلهتك)، فهو ذو آلهة على هذه القراءة، وهذه القراءة أكثر القراء عليها، وهي قراءة الجمهور.

وقال ابن بري: يقوي ما ذهب إليه ابن عباس في قراءته: (ويذرك وإلهتك) قول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وقوله أيضاً: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، فهذا يقوي قراءة ابن عباس في الآية: (ويذرك وإلهتك) يعني: يترك عبادتك ولا يعبدك.

وكان العرب في الجاهلية يسمون معبوداتهم من الأوثان والأصنام آلهة وهي جمع إله، قال الله عز وجل: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:١٢٧] يعني: وهي أصنام عبدها قوم فرعون معه، والله أصله إله، على وزن فعال، بمعنى: مفعول، فهو إله بمعنى: مألوه، أي: معبود، ولذلك نسمي توحيد الألوهية توحيد العبادة.

وكقولنا: إمام، على وزن فعال، لكنها بمعنى: مفعول؛ لأنه مؤتم به، كذلك إله بمعنى مفعول أي: معبود، فلما أدخلت عليه الألف واللام: الإله، حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام؛ فصار اللفظ (الله)؛ لأن لفظ الجلالة يقال كثيراً جداً، فخففوه بحذف الهمزة.

وقال ابن القيم: القول الصحيح: أن الله أصله الإله، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم.