للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البذور الأولى لتحرير المرأة العربية]

كان المجتمع المصري قبل مقدم نابليون ملتزماً بالإسلام وأخلاقياته، وكان كل من خرج على هذه الأخلاقيات يلقى العقاب والردع، وكان الحجاب على رءوس النساء جميعاً حتى النصرانيات واليهوديات المصريات، ولم تظهر امرأة سافرة إلا زوجات القناصل الأوروبية في مناخ الاحتلال، وكان يحصل انتشار النساء الفرنسيات في شوارع القاهرة؛ لأن الحملة كان معها كمٌّ كبير من العلماء والباحثين؛ لأنها كان لها هدف خبيث جداً، وكان معهم مطبعة، وكان معهم أيضاً حوالي ثلاثمائة امرأة، وهؤلاء النسوة هن بذرة الفساد في مصر؛ لأنهن بدأن ينتشرن في الشوارع ويفسدن المجتمع بصورة فاحشة جداً، في تبذل وتبرج وفساد، وبدأت بعض النسوة غير المسلمات يحاكين أولاء النسوة، ولم يمر حوالي أربعة عشر شهراً حتى انقلبت الأوضاع رأساً على عقب.

ومن الأمور التي ينبغي أن نلتفت إليها أنّ أول مواجهة حصلت حين ثار المسلمون في مصر ضد هذا الوضع، فقد كانت ثورة القاهرة الأولى في (٢١ أكتوبر ١٧٩٨م) أي: منذ حوالي قرنين من الزمان، وكان السبب في ثورة القاهرة الأولى أساساً هو هذه الإباحية التي انتشرت وأرادت أن تحل محل العفاف.

ومعروف أن ثورة القاهرة الأولى قادها أئمة المسلمين وعلماؤهم وطلبة الأزهر، وأحبطت الثورة بعد أن أطلقت المدفعية الحديثة على الأزهر والمساجد المختلفة، ودخلوا الأزهر وحولوه إلى إسطبل للخيول، وكل هذه القصص الوحشية التي فعلها الفرنسيون معنا معروفة، ومع ذلك يأتي الخونة ليحتفلوا بذكرى احتلال مصر على يد نابليون بونابرت، ويذكرونا بكلام طه حسين لما كان يستنكر على المسلمين المغاربة كيف يقاومون الاحتلال الفرنسي، ويقول لفرنسا: اصبري؛ فهذا عناء وثمن لابد أن تدفعيه في سبيل فرض الحضارة على هذه الشعوب المتوحشة! واندلعت ثورة القاهرة الأولى كرد فعل ضد الانحلال الذي كان يمارسه الفرنسيون، وهذا حقيقة هو فعلاً بدء البذرة الأولى لتحرير المرأة.

وهذه البذرة الأولى التي وجدت في مصر جاءت مع الحملات الغربية بقيادة نابليون بونابرت، وحصلت ثورة القاهرة الأولى، ثم بعد خمسة أشهر تقريباً وستة أيام حصلت ثورة القاهرة الثانية وكليبر لم يجد بداً من قصف المدينة بالمدافع وتجويعها حتى تسلِّم.

وفي الحقيقة هم يقولون: مرور مائة سنة على تحرير المرأة العربية، وهذا تعبير غير صحيح، فليست مائة سنة، بل هي مائتان، إلا إذا كانوا يقصدون صدور كتاب، أما البذرة الأولى فكانت نتيجة هذا الاحتكاك بالفرنسيين في الحملة الفرنسية، وهذا الكلام هو الذي قاله لويس عوض كما سنبين إن شاء الله، هذا أمر.

الأمر الثاني: أن كلمة (المرأة العربية) كلمة غير صحيحة، فلم يكن المسلمون حينذاك يعرفون مصطلح (المرأة العربية)، وما عرفوا إلا المرأة المسلمة فقط، وقاسم أمين ما كان موجهاً دعوته إلى المرأة العربية ولا المرأة النصرانية ولا المرأة اليهودية، إلى المرأة المسلمة.

ولويس عوض كتب يقول: إن تحرير المرأة بدأ (١٨٠٠م) وأن الحملة الفرنسية كانت نقطة الانطلاق إلى تحرير المرأة من كل قيد بما فيه قيد الدين والخلق والحياء.

وعام (١٨٠٠م) هو عام هزيمة ثورة القاهرة الثانية حينما سبى جنود الاحتلال الفرنسي نساء مصر وبناتها وغلمانها! هذا هو عام تحرير المرأة المصرية في زعم لويس عوض.

والجبرتي وصف بدايات حركة السفور، ووصف بداية حركة تحرير المرأة ووصف ما أصاب بعض نساء القاهرة من الانحلال نتيجة مخالطة المصريين للفرنسيين ومحاكاتهم في الزي وفي السلوك، والجبرتي يتكلم عن الأسافل من النسوة، وهو يسميها (ثورة نساء) أو (ثورة حريم) يعني أنهمن كن يقعن في الفاحشة والبغاء نتيجة الاختلاط بالجنود الفرنسيين، وبدأ ذلك ينتشر في المجتمع.

فـ لويس عوض وهو تلميذ المدرسة الاستعمارية يصر على أن هذه كانت ظاهرة عامة ليست في الأسافل، كما يقول الجبرتي: إن الأسافل من الجواري والسفل من النساء هن اللائي كن يفعلن ذلك.

فهو يرى أن هذه ثورة تحررية، ويجعل من انحطاط المرأة إلى حد التكسب بالفاحشة ثورة نساء وبداية تحرر المرأة، فـ لويس عوض يؤرخ بداية تحرير المرأة بثورة القاهرة الثانية؛ لأن الدليل عليها ما قاله الجبرتي -وهو كلام شديد-: أما الجواري فذهبن إليهم أفواجاً وفرادى وأزواجاً، فنططن الحيطان، وتسلقن إليهم من السيقان، ودلوهن على كذا وكذا إلى آخره.

فيحكي أيضاً ما كان يحصل من الفواحش والتبرج والاختلاط بالفرنسيين ومصاحبتهم في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل بالفوانيس والشموع الموقدة إلى آخره.

هذه هي بداية تحرير المرأة، ثم يأتون إلى الإسلام ويقولون: الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها كذا وكذا.

فمن الذي يعامل المرأة على أنها سلعة؟! فالإسلام هو الذي كرمها، ومع هذا يأتي هذا الخبيث ويرى أن بداية تحرير المرأة هو هذا الفجور والفساد والتفسخ الذي حصل من سفلة النساء في مصر، وادعى أيضاً أن طبقات النساء اللواتي حاكين المتبرجات والعادات الفرنسية قد طرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واتسعت هذه الدعوة بتأثير سبايا الفرنسيين المتحررات من بنات بولاق.

فرائدات تحرير المرأة في نظره هن هؤلاء السبايا المتحررات؛ لأنهن كنَّ يمارسن البغاء وهذه الأشياء، فانظر إلى العجب! وكيف لا تتعارض عنده (سبايا) مع (متحررات)؟! لأن الحرية التي يقصدها هنا هي الحرية الشهوانية بمعناها السوقي المبتذل، فيمكن في نظره أن تكون المرأة جارية سبية وفي نفس الوقت متحررة، بل طليعة ثورة تحررية؛ لأنها تتبرج في ثيابها وتخرج سافرة الوجه متأبطة ذراع محررها ومالكها في نفس الوقت، وأيضاً مع فصل كامل بين حرية المرأة المملوكة وحرية هذا الوطن الأسير! هذا هو ما يتعلق بموضوع البذرة الأولى لتحرير المرأة، وهو ثورة القاهرة الثانية التي قام بها المسلمون المجاهدون من علماء الأزهر ومن طلاب الأزهر ومن الطبقة الفقيرة من المجتمع المصري، قامت هذه الثورة ضد الحملة الفرنسية من أجل التصدي لهذا التفسخ وهذا الانحلال الذي يعتبرونه بداية تحرير المرأة.