للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بين الطب والعلاج بالقرآن]

خلاصة الكلام يذكره أحد الأخصائيين النفسيين من ذوي الاستقامة، يقول: إن حالات تلبس الجن ثابتة في الكتاب والسنة، ولكنها ليست بهذه الكثرة، والممارس لمهنة الطب النفسي يلاحظ أن معظم الحالات التي تتردد للعلاج لها مسار مرضي محدد، وتسلسل منطقي واضح، واستجابة معقولة للأدوية المتاحة رغم حصولها، فقط يكتفي بالعلاج إذ إن العلامات واضحة كلها تماماً وتبين ما إذا كانت أعراض مرض نفسي أو مرض عضوي، والطب النفسي الآن ليس كما كان من قبل، الطب النفسي الآن عبارة عن (١ + ١ =٢)، فيوجد وضوح كامل في قواعد التشخيص وعلاماته بعد التقدم الهائل في هذا المجال، فلا يصح أن نسيء الظن في هذا المجال الذي عظمه الشرع، وحثنا على السعي إلى أهل الخبرة والثقة من الأطباء.

ثم يقول: وإذا كانت هناك نسبة من الأمراض النفسية ما زالت أسبابها الحقيقية غامضة، فهذا يدعونا إلى البحث والدراسة والوصول إلى أسبابها، وليس أضر علينا من تفسير كل الأمراض على تلبس الجن أو السحر أو الحسد؛ لأن ذلك يوقف حركة الاجتهاد والبحث البشري، ولو كان الحال هكذا لما اكتشف علاج مرض واحد.

ويقول أيضاً: من الصعوبة على أي شخص أن يجزم بأن حالة معينة هي من تلبس الجن، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عالج كل الحالات على أنها تلبس جن أو سحر أو حسد، ولكنه عالج بكل الوسائل: عالج بعض الحالات بالعسل، وعالج بالكي، وعالج بالحمية، وعالج بالحناء، وعالج بالعصابة للرأس إلخ، وأمر صحابته بالذهاب إلى الطبيب مع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب، ولكنه يعلمنا الأخذ بالأسباب.

إذاً: التعميم والتعتيم الذي يمارسه بعض المعالجين الآن ما هو إلا جهل بالدين أو بالطب أو كلاهما معاً.

ثالثاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)، وما يفعله الكثيرون من المعالجين البدائيين اليوم لا يخرج عن كونه عرافة أو كهانة؛ لأنهم يجزمون بتلبس الجن، والجن غيب عنا، والجزم بالغيب عرافة، وإذا كان بعضهم على علم فالغالبية على درجة شديدة من الجهل، وإذا كان بعضهم تقياً فالغالبية على غير الجادة، وليس هناك رقابة على ممارساتهم لذلك، فالمريض المسكين حين يذهب إلى أحدهم فهو يرمي نفسه في المجهول.

رابعاً: أن الاستعاذة من الجن ومن السحر ومن الحسد أمر يسير علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة المعوذتين، وآية الكرسي، وباقي الآيات في الصباح والمساء، وبتقوية العلاقة بين الإنسان وربه دون الحاجة إلى وسيط، وهذه الأدعية يقرؤها الشخص المريض على نفسه أياً كان نوع مرضه، أو يقرؤها عليه أحد أقاربه أو أصدقائه، ولا يكون هناك شخص بذاته يتولى هذه المهمة ويتخذها وظيفة وإلا أصبحت كهانة صريحة.

خامساً: ليس هناك ما يمنع من الجمع، بل إنه من الضروري الجمع بين أخذ الدواء الذي يفرضه الطبيب المتخصص، وبين الدعاء وقراءة القرآن والرقية الشرعية، لا مانع على الإطلاق بجانب الأسباب العادية أن تتعاطى العلاج بالقرآن الكريم وبذكر الله سبحانه وتعالى، وبالرقية الشرعية التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل هذا من أمر الله وقدره وعلينا أن نحارب القدر بالقدر، سواء قدر التداوي بالأدوية، أو التداوي بالقرآن الكريم الذي قال تعالى فيه: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:٨٢].

أما الأخذ بشيء مع إهمال باقي الأشياء فهو من قبيل النقص، فالإنسان جسد ونفس، ولا يمكن الفصل بينهما، وللجسد ما يفيده وللنفس ما يلائمها.

يقول أيضاً الدكتور عبد الستار أبو غدة في بحث له قيم جداً حول هذا الموضوع، نلتقط منه بعض العبارات بسرعة، يقول: الأصل في المرض -أي: مرض كان- أن يبحث عن دوائه في الأسباب الكونية الظاهرة المقدور على فهمها وتفسيرها، ولذا لا يصار للبحث عن علاج آخر إلا عند العين، وسنرى أن الحالات المنقولة في السنة كلها فيها الإشارة إلى أن ما بهؤلاء المرضى قد أعيا الأطباء علاجهم، على أنه لا ينافي هذا أن يحصل الاقتران بين العلاج المادي والروحي الذي لا يتنافى اجتماعه مع الأخذ بالأسباب الظاهرة، ذلك أن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف، والرقية له لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق الشفاء، وهذا الفصل أيضاً غير مرغوب في الإسلام، أما أن نعتمد فقط على الأدوية، ونهمل جانب الرقية والعلاج بالدعاء وبالذكر، واضح أن الإنسان بدن ونفس وروح، البدن يعالجه الطب، والروح يعالجها القرآن، وليس فيه داعي أبداً للفصل بين هذين الركنين، فالالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق شفائه، بل إن ذلك الالتجاء يرافق عملية العلاج للمرض، سواء حصل الأمل بشفائه أو العجز عنه، إنما لا يسوغ الاقتصار على العلاج الروحي ويترك الأخذ بالأسباب الأخرى التي وضعها الله سبحانه وتعالى في صورة قوانين طبيعية، وجاءت الشريعة بالتأكيد على أن الأخذ بها لا ينافي التوكل على الله، بل إن عدم الأخذ بها عجز وتواكل منهي عنهما شرعاً، ومستنكران عقلاً وطبعاً.

يقول أيضاً: إن الإقدام على وسائل العلاج الروحي الزائدة على الدعاء والتعوذ والرقية من غلظة وشدة وانتهار وتهديد من المعالج موجهة في الظاهر للمريض يحل ذلك لا يحل إلا بعد أن يثبت أنه لا علاج له في الطب، أي: حتى يستيقن أن سبب هذا المرض غير عضوي، وأن يكون المعالج موقناً أيضاً بسلامة تصرفه، وأن تكون عاقبة ذلك مصادقة لما رآه، وإلا لم يكن بمنجاة من القصاص والتعزير، ثم ذكر أموراً من المعوذات المعروفة، والاستعاذة من نزغات الشياطين، وقراءة المعوذتين، وقراءة آية الكرسي، وسورة البقرة، والآيتين من سورة البقرة إلى غير ذلك من الأذكار المعروفة في هذا المجال.

ثم وجهت إلى الدكتور: عبد الستار أبو غدة في نهاية هذا البحث بعض الأسئلة -لأنه كان يحاضر بعض الأطباء- فسئل من أحدهم: نحن نعتقد بالجن باعتبارنا مسلمين -والتعبير هذا أدق فقول: (باعتبارنا أو بصفتنا) أولى، ولا داعي إلى كلمة (كمسلمين) التي تقتضي التشبيه- إلا أنه ما الدليل المستخرج من الشريعة على أن الجن قد يسببون الأمراض، وخاصة الأمراض العقلية النفسية؟ وما هو الدليل على أن الشفاء يتم باستخراج أو طرد الجن؟

الجواب

وردت بعض الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الجن قد يتسلطون على ضعاف الناس، ويسببون لهم أحوالاً مرضية لا يجدي فيها العلاج الطبي، وورد أن بعض هذه الحالات عولجت بتقوية نفس المصاب، وذلك بالتعوذ بالأدعية، وزجر الجني المتسلط عليه، ولا يقوى على ذلك إلا من كان قوي الإيمان والعزيمة، حتى يكون سلطانه على الأنفس الشريرة أقوى من سلطانها، فإذا تخلص المصاب مما كان يعانيه، دل ذلك على جدوى العلاج، هذا وإن درجة هذه الأحاديث تصلح للأخذ بها عملاً، ولم تصل إلى درجة أن يبنى عليها اعتقاد، يبدو أنه يقصد عدم التواتر وهذه قضية أخرى.

السؤال

كيف نتعرف على أن الجني مسيطر على شخص ما؟

الجواب

إذا أصيب الإنسان بمرض، أو خلل في جسمه أو عقله، فإن السبيل الذي دعت إليه الشريعة هو الرجوع إلى المختصين من الأطباء، فإذا لم يُجدِ العلاج الطبي فإن من المحتمل أن يكون سبب الإصابة أو المرض غير عضوي، فيضم إليه العلاج الروحي مثل: الأدعية والأذكار وتقوية نفس المصاب، والتغلب على تسلط النفس الشريرة المؤثرة عليه.

السؤال

ما حكم تعلم كيفية التخلص من الجن؟ الجواب: ليس هناك أمور خاصة تحتاج إلى تعلم أو تعليم، بل كل ما يحتاج إليه العلاج هو الدعاء بالأدعية المأثورة، وترداد الأذكار الواردة، مضافاً إلى ذلك صلاح المعالج وتقواه وقوة نفسه.

يقول أيضاً: إن الجوانب الروحية والدينية في علاج الأمراض عامة والنفسية منها بخاصة هي العنصر الدائم في العلاج مهما تبدلت الوسائل الأخرى الخاضعة لمعطيات التجارب والكشوف.

أيضاً في كلامه عن العلاجات الروحية الغيبية يقول: ومن الواضح أن العمل بالشيء أو تركه للآخر غير التصديق والجحود، ويقول: حين نقرر العلاج الروحي وتوقع بعض الصور الغيبية لا نلتزم ولا نقبل من صوره إلا ما ثبتت شرعيته بالنصوص الصحيحة، بعيداً عن الخرافات والأوهام، وذلك منهج واضح؛ لأن الإسلام قد وضع الأسس الكفيلة لإبعاد صور الدجل والاستغلال التي يخترعها كثيرون ممن يستغلون حال ضعف المريض واستسلامه لكل من يلوح له بالعلاج، وإن تسليط الأضواء على المنهج الصحيح كفيل بإزهاق الباطل حتى يذهب الزبد جفاء، وبإحقاق الحق حتى يبقى، وهو ما كان قائماً على أدعية وتعويذات مشروعة وهادفة، ولابد أن يؤدي إلى تراكم الشوائب التي علقت بهذا العلاج بسبب الغموض الذي يستغله بعض المشعوذين.

إن ما جاء في الطب النبوي من علاجات روحية في المرض والوجع واللدغة والإصابة بالعين مما صح في الأحاديث كله قائم على دعاء الله مباشرة دون وسيط، بأن يلزم الإنسان سواء السبيل للوصول إلى العلاج الناجح، (فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله سبحانه وتعالى)، وهذا الدعاء يصدر من المريض أو ممن يتوسم فيه استجابة دعائه بعيداً عن حمل التمائم والحجب.

ثم يقول أيضاًً: وهناك شعار يمكن رفعه في الدعوة إلى رحابة الصدر بهذا العلاج، وهو مستمد من قول النبي صلى الله عليه وسلم تعقيباً على استعراضه بعض الرقى المتداولة، وإقرار ما كان منها خالياً من الشوائب المخلة بالعقيدة أو السلوك الإسلامي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وإن تسليط الأضواء على هذا النوع من العلاج إباحة للنفع، كما أن من ينكر عن جهل مضمونه ومستنداته يوصد باباً للنفع، ويصد عن سبيله.

وهنا يرد على الأطباء الذين ينكرون العلاج بالقرآن والذكر وبالعلاج الروحي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، ما دام فيه انضباط بالضوابط الشرعية المعروفة، وسد هذا الباب وإغلاقه على الناس يعد م