للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدب من الكبير]

في الحقيقة باب الآداب باب واسع، ويستغرق أوقاتاً كثيرة جداً، ونحن ننبه على بعض الآداب التي يشيع التهاون والاستهانة بها، وحينما نناقش هذه القضايا نرجو أن يكون كل منا يطلع عليها لغرض التطبيق والامتثال لآداب الشرع الشريف، ومعالجة ما يشيع بيننا من التقصير في هذه الجانب.

فندلف إلى أدب من هذه الآداب، وهو أدب مراعاة حق كبير السن، فمن يكبرك في السن فعليك أن تراعي حقه، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نعطي كل ذي حق حقه، بل أمر الله عز وجل بذلك في قوله: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:٨٥] وصحيح أنها واردة في حوار شعيب مع قومه في بخس المال، لكن قد يكون معنى قوله: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:٨٥]، يعني: كل ما يستحقونه، ومنها الحقوق الأدبية بالاحترام والتوقير، وليس أدل على ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) أي: ليس من المسلمين، ولا أخلاقه أخلاق المسلمين، ولا أدبه أدب المسلمين؛ لأن المسلمين خير أمة أخرجت للناس.

فيجب أن نعرف هذه الحقوق، وأن نعطي الأكابر حقوقهم كاملة غير منقوصة، وأن نبذلها لهم عن طيب خاطر، وأن نخفض الصوت بحضرتهم، وأن نحرص على الانتفاع بخبرتهم، والالتقاط من جواهر علومهم، وإفساح المجال لهم، وتهيئة الموضع اللائق بشيبتهم، ووضع جواهر علومهم في صدورنا كما توضع الدرر الكبار في العقد المنضود، فإذا أراد إنسان أن ينظم عقداً فإنه يضع الحبات الكبرى في صدره وفي مركزه، فالصدر للصدر.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا) يدل على ذلك؛ فإنه إذا أمرنا بحسن الخلق مع الصغير فأولى ثم أولى أن تَحسُن أخلاقنا مع الكبير، وإذا أمرنا بالرفق مع الجاهل فيكف بالعالم؟ وإذا أمرنا الله عز وجل بحسن الخلق مع الكافر فكيف بالمسلم؟ وذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:٨٣]، وهذه تعم اليهودي والنصراني، وقضية الولاء والبراء قضية أخرى من الثوابت التي لا تنازل فيها، لكن لا يعني أنك تعتز بدينك أن تكون سيئ الخلق ولو مع الكافر ولو مع البهائم، فأنت مطالب بمراعاة هذه الآداب، بل إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وأخاه هارون عليهما السلام إلى فرعون أمرهما بالقول اللين، وموسى عليه السلام هو كليم الله الذي كتب له التوراة بيده، وخصه بتلك الخصائص، وليس هذا فحسب، بل ضم إليه أخاه هارون وزيراً، فهما رسولان كريمان أرسلا إلى أشقى خلق الله في زمانه وهو فرعون، ومع ذلك قال الله سبحانه وتعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤]، فأمرهما بأن يقولا له قولاً ليناً.

إذاً لين القول والموعظة الحسنة والحكمة والأدب في الحوار لا يعني أنك تتنازل عن دينك، وسوء الخلق والتجاوز في التعبيرات لا يعني أنك قوي في الحق، إنما الفتوة أن تجمع بين الثبات على الحق مع حسن الخلق وفي نفس الوقت؛ لأنه ليس المقصود التشفي من هذا الإنسان الهالك، وإنما المقصود هدايته واجتذابه إلى الحق، وهذا ما التزمه موسى، بقوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:١٨]، فانظر إلى التلطف في عبارة موسى مع فرعون وهو من هو؟ ففي قوله: (هل لك إلى أن تزكى) تلطف، ولم يقل: هل لك إلى أن أزكيك، لكن قال: (هل لك إلى أن تزكى)، وكأنه هو الذي يزكي نفسه، ولم يقل له: هل لك إلى أن أزكيك، أو تعال أعلمك أو أزكيك، بل قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:٨ - ١٩].

فإذا كان هذا مع الكافر فكيف به مع المسلم؟! وإذا كان مع الصغير فكيف به مع الكبير؟! وإذا كان مع الجاهل فكيف به مع العالم؟!