للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعوة إلى التوبة من المعاصي والغفلة]

الله تبارك وتعالى أمرنا بتجديد هذا الإيمان والإسلام، والتقصير طبيعة البشر، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، ولما سأله بعض الصحابة الوصية قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) مع أنه سيحرص على تحقيق التقوى، لكن لا يمنع أنه يقع في تقصير، والمهم أنه لا يستسلم للشيطان، ينهض من العثرة، ويجدد توبته، ويستأنف المسير إلى الله عز وجل.

(وأتبع الحسنة السيئة تمحها) لأن الإنسان غير معصوم، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، وقال عز وجل في مدح المؤمنين {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:١٣٥] ولم يقل: هم معصومون من فعل المعاصي.

لكن قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:١٣٥]، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) شبههم بالقمع، وهو الذي يوضع فيه السائل فيخرج من أسفله، فمعنى ذلك أن هؤلاء لا ينفعلون بالنصيحة، وإنما تدخل فيهم من أعلى وتخرج من أسفل كأنها لا فائدة منها، وكأنهم لا يستفيدون ولا ينتفعون بها، والله تبارك وتعالى هو الذي يأمرنا أن نستجيب له فقال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٧ - ٤٨]، والله عز وجل ينادينا إلى التوبة، وهو أرحم بنا من أنفسنا تبارك وتعالى، ليس هذا فحسب، بل هو يأمرنا بالمبادرة والمسارعة والمسابقة، فيقول: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠] هذه هي الروح التي ينبغي أن تحكمنا في مسيرنا إلى الله، أننا نحقق في قلوبنا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فنفر من الله إلى الله (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) كما كان يدعو صلى الله عليه وآله وسلم.

ويقول تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:١٨٦]، ويقول عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:٢٥] هذه دعوة الله، هذه هي دعوة الحق، فهو يدعو إلى دار السلام.

وقال عز وجل في شأن المشركين: (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٢١]، ويقول تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:٢٧ - ٢٨] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في تنبئه في فتن آخر الزمان: (دعاةٍ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ونحن اليوم تتخطفنا دعوات الشر من كل جانب، ومن كل حدب وصوب، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ومثل هذه الفتن التي تحيط بنا من كل مكان ليس لها من دون الله كاشفة، فينبغي أن نعتصم بالله عز وجل، ونجتهد في النجاة، ولا تغرنا تلك القوافل أو الكتل التي تهوي إلى جهنم وهي غافلة عن هذا المصير ولا تهتم به، ولا تنظر فيما يكون فيما بعد الموت أو بعد الحياة.

ومما يقوي همتنا على ذلك أن الله عز وجل عظم ثواب التدين في وقت غفلة الناس وانخراطهم عن دين الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فكما أنه بالقدر الذي تعاني من الفتن حولك وتصبر لوجه الله بقدر ما يعظم ثوابك عند الله، كما قال عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نفقتك ونصبك) فبقدر ما تعاني في طريق الاستقامة في سبيل الله بقدر ما يعظم أجرك عند الله تبارك وتعالى، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) الذي يعبد الله وقت الهرج ووقت الفتن ووقت اختلاط أمور الناس وكثرة القتل ووقت انصراف الناس عن الدين إلى الدنيا، فإن هذه هجرة تكون في القلب، فهو ربما يعجز، إذ قد لا توجد طريق للهجرة إلى دار إسلام أو إلى بلد أخف شراً، فإذا عمت الفتن فليهاجر الإنسان بقلبه، ويهجر السوء وأهله إلى الخير وأهله، يكون ثوابه حينئذ كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعظم ثواب التدين وقت الغفلة، لذلك لما سئل أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥] فقال للسائل: سألت عنها خبيراً، أنا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلاً فقال: (مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم هوىً متبعاً، وشحاً مطاعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه عليكم أنفسكم، لا يضركم ضلال غيركم) لا تغتر بكثرة الهالكين، كما قال الفضيل بن عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة! ولا تغتر بكثرة الهالكين.