للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من علاج مرض القلب وقسوته لزوم تقوى الله]

الله تبارك وتعالى وصانا بوصية هي وصيته للأولين والآخرين، وصيته التي وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:١]، كان الواحد من السلف إذا قيل له: اتق الله يصفر وجهه، لا كما يحصل الآن، إذا قيل لإنسان: اتق الله يركبه الشيطان ويقول: أنا أتقي الله أحسن منك.

فتقوى الله معناها أن يراجع الإنسان نفسه وينزجر، فإذا قيل له: اتق الله لا يكون كمن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فقد أمرنا بتقوى الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١] ولم يوصنا فقط بتقوى الله، بل اشترط معها شرطاً آخر، وهذا الشرط هو أن تتقي الله وتثبت على هذه التقوى حتى الموت، فالتقوى أمر والثبات عليها إلى الموت أمر زائد، ويمكن التعبير عنهما بعبارة واحدة هي (الاستقامة) كلمة تركب من معنيين: التقوى والثبات على التقوى، فكل عمل حتى يكون مقبولاً عند الله عز وجل لابد فيه من النية والإخلاص وحُسن الخاتمة، فإنما الأعمال بالخواتيم، وأدلة هذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) إلى آخر الحديث المعروف، فنحن أمرنا بملازمة التقوى، قال بعض السلف رحمهم الله: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.

وليس أعظم الكرامة أن يطير الإنسان في الهواء ويمشي على الماء وتخرق له العادات، بل كان السلف يخافون من مثل هذا، فربما يكون لهذا تأثيراً سيئاً على الإيمان، والكرامة العظمى التي هي أعظم كرامة ينالها ولي الله هي الثبات حتى الممات، والوفاة على الإسلام، هذه التي هي كانت دعوة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أمر الله عز وجل بهذا الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:١٠٢] قال ابن مسعود: (أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يطاع فلا يعصى) فقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] أمر بالتقوى والثبات على التقوى حتى الممات.

وقد ذكرنا من قبل أن الموت على الإسلام والوفاة على الإسلام وختم الحياة بكلمة الشهادة ليس أمراً إرادياً، وإنما هو محض توفيق من الله تبارك وتعالى، إذاً

السؤال

ما الحكمة في أن الله أمرنا بشيء هو ليس في أيدينا؟

و

الجواب

إن الله عز وجل يقول لنا: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢]، وهذا التوفيق ليس بأيدينا، فالله هو الذي يوفق، وإنما تأخذ بالأسباب التي شرعها الله عز وجل حتى يمن عليك بحسن الخاتمة والثبات على الدين حتى الممات، فهذا يتضمن الأخذ بأسباب الثبات حتى الممات، فالقلب الذي يقنع ويرضى بالله عز وجل حاله كحال ذلك القلب الذي سئل عنه بعض السلف: أيسجد القلب؟ قال: نعم.

يسجد لله سجدةً لا يرفع بعدها رأسه أبداً.

فبدن الإنسان قد يسجد أحياناً وقد لا يسجد، أما القلب الصادق في تقوى الله الثابت على طريق الله فإنه لا يحيد ولا يتحول ولا ينصرف إذا ذاق حلاوة الإيمان، قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك) احفظ أوامر الله يحفظك الله بأن يثبتك على دينه حتى الممات، ولذلك جاء في بعض الآثار أن العبد إذا استقبل القبلة في الصلاة، وتوجه بقلبه وبوجهه إلى الله عز وجل وإلى القبلة، فإذا التفت في صلاته قال الله عز وجل: إلى خير مني؟ فهل هناك شيء خير من الله حتى تلتفت عن الله إليه؟ لا شيء أبداً خير من الله عز وجل، فلذلك هذه الكلمة نفسها نقولها لمن يحيد عن الطريق إلى الله، لمن كان يرى الأمر حراماً بالأمس ويستبيحه اليوم، لمن كان يقبض على الجمر واليوم رضي بجنة الدنيا التي هي مثل جنة المسيح الدجال من يدخلها يجدها ناراً، ويفتن بهذا المظهر الخادع ولا يلتفت إلى حقيقته.

من ترك صلاة الجماعة، وقصر في غض البصر، وتهاون في تعاطي الربا وغير ذلك مما حرمه الله بعد ما جرب وذاق حلاوة الطريق إلى الله هل وجد ذلك خيراً وأفضل من طريق الله؟ كلا.

كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعاء السفر: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور) يعني: من أن تبدل أحوالي في الدين والطاعة إلى انفكاك هذه العروة والتفريط في حق الله عز وجل.

وأصل ذلك مأخوذ من تكوير العمامة، عندما يدور الإنسان العمامة على رأسه حتى تكبر وتمسك برأسه فهذا هو التكوير، فإذا نقض هذه العروة وحلها فهذا هو الحور بعد الكور، أي: فك العمامة بعد تثبيتها.

فهذه هذا المقصود بهذا التعبير، يعني: انحلال عرى الدين، وضعف وازع الإيمان في قلب الإنسان بعد أن كان ثابتاً وبعد أن كان قوياً، كان يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) ولذلك قال السلف: لا تعجب ممن يحور، ولكن اعجب ممن يستقيم.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في دعائه أيضاً: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا) لماذا؟ لأن مصيبة الدين لا تجبر، بعكس كل مصائب الدنيا، فإن فيها عوضاً، وقد يخلف الله عليك ما فاتك، لكن مصيبة الدين لا تعوض، وجرح الدين لا يعالج إلا أن يشاء الله، كما يقول بعض الشعراء: من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعته عوض فلا يوجد شيء يعوضك عن الله، لكن الله يعوضك عن كل شيء، لذلك يقول بعض الصالحين: فليتك تحلو والحياة مريرةً وليتك ترضى والأنام غضاب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب ويقول شريح: إني أصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى أربع مرات، أحمده إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده، إذ وفقني لاسترجاع ما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.

وقال حاتم الأصم: مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا -وحاتم الأصم رجل مشهور من السلف-، ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف، وفاتتني صلاة الجماعة فلم يعزني أحد.

وكان السلف إذا الواحد منهم فاتته صلاة الجماعة تدفق المسلمون وأهل المسجد إليه يعزونه في هذه المصيبة.