للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[(الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء]

إن آية الكرسي مشتملة على عشر جمل مستقلة، نذكرها بالترتيب: الجملة الأولى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} والكلام فيها على قسمين: أولاً: بيان أن (الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

فقوله: (الله لا إله إلا هو) هذا هو شعار الإسلام، وهذه كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله تبارك وتعالى.

يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: وأما تأويل قوله: (لا إله إلا الله) فإن معناه: النهي أن يُعبد شيء غير الله الحي القيوم، الذي صفته ما وصف به نفسه تباك وتعالى في هذه الآية: (الله لا إله إلا هو)، فبدأ بلفظ الجلالة، ثم ذكر أهمّ شيء على الإطلاق في دعوة الإسلام، وهو هذا الشعار -شعار التوحيد-: (لا إله إلا هو).

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: إخبارٌ بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلق.

وقال البيضاوي: والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير.

وقال القاضي أبو السعود: أي: هو المستحق للعبودية لا غير.

وقال السعدي: فأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، فألوهية غيره وعبودية غيره باطلة.

إذاً: معنى هذه الجملة: أن الله جل جلاله هو المتفرد في استحقاق العبودية، فلا يعبد أحد سواه كائناً من كان، بأي نوع من أنواع العبادات.

فلا قيام ولا ركوع ولا سجود ولا ذبح ولا نذر إلا له وحده تعالى.

ولا يُدعى في السراء والضراء واليسر والعسر والفرح والغمّ إلا الله سبحانه وتعالى.

ولا يُستمدّ ولا يُستنصر ولا يُستغاث إلا به.

ولا طواف إلا ببيته العتيق.

ولا حلف إلا به، ولا حكم إلا له.

ولا ندّ ولا نظير ولا شريك له في أي نوع من أنواع العبادات.

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هذه كلمة النجاة، وهي مكونة من شقين: الأول: شق فيه النفي، وهو: (لا إله) يعني: نفي استحقاق العبودية والألوهية عن غير الله.

الثاني: الإثبات، وهو: (إلا الله)، وهو إثبات استحقاق الألوهية لله الأحد جل جلاله.

وقد أتى ذكر شهادة التوحيد بمعناها في بعض المواضع، مثل قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:٢٥٦]، والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، وهي كلمة الشهادة، فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت) يعني: يحقق النفي، فيؤمن بأنه لا يوجد أحد ولا شيء غير الله يستحق أن يُعبد.

وقوله: (ويؤمن بالله)، يعني: لا يصحّ إيمانك بالله حتى تبطل استحقاق العبودية لغير الله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:٢٥٦].

وكذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [الزخرف:٢٦ - ٢٨] وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، لكنه هنا ذكرها بالمعنى: (إنني براء مما تعبدون) أي: أكفر بكل ما تعبدون من دون الله، (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)، وهذا هو نفس معنى: لا إله إلا الله.

وهذا هو ما بدأت به آية الكرسي، وهو مفتاح وأساس دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فما بعث الله نبياً إلا أوحى إليه أنه لا إله إلا هو، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥] فهذه الكلمة مفتاح دعوة جميع الأنبياء والرسل، ولذلك كانت هذه الشهادة قاسماً مشتركاً بين جميع الأنبياء على الإطلاق، ولجميع الرسالات: لا إله إلا الله، ينضّم إليها شق آخر في الشهادة بإثبات النبوة والرسالة وهي: فلان رسول الله، ويختلف هذا من أمه إلى أمه، فمثلاً في عهد نوح كانت كلمة النجاة: لا إله إلا الله نوح رسول الله، وفي عهد موسى: لا إله إلا الله موسى رسول الله، وفي عهد عيسى عليه السلام: لا إله إلا الله عيسى رسول الله، ثم جاءت الرسالة الخاتمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لا ينجو الإنسان إلا إذا حقق هذين النوعين من التوحيد: توحيد المعبود -وهو: الله- وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله؛ لأن معنى أنك تشهد أن لا إله إلا الله: أنك تثبت أنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إلى الله، وأن من عبد أو وجه العبادة لغير الله فقد أشرك بالله واتخذ معبوده إلهاً من دون الله.

فخلاصة الكلام: أن الشقّ الأول من كلمة التوحيد يدلنا على توحيد العبادة، فإذا قال قائل: يا رب آمنت أنه لا إله إلا أنت، وأنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إليك، إذاً: كيف يتعرف هذا على كيفية العبادة؟ وعن أي طريق يعرف ما يرضي ربه ليفعله؟ وما يسخطه ليتجنبه؟ وكيف يصلي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يزكي؟ وكيف يحج؟ وكيف يقوم بسائر العبادات؟ وقد أتى بيان هذا كله في الشق الثاني، وهو توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فلا يعبد الله بالأهواء، ولا بمقتضيات العقول فحسب، وإنما يعبده بالوحي الذي يوحيه الله للرسول الذي أرسله كي يعلمك كيف تحقق التوحيد.

فإذاً: لابد من توحيدين: توحيد الله عز وجل، وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله، إذ لا يمكن أن يقبل الله من العبد عبادة إلا إذا كانت موافقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال القاضي ابن عطية في تفسيره: لما أخبرهم تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم، أتبع ذلك بإعلامهم أنه ما أرسل قط رسولاً إلا أوحى إليه أن الله فرد صمد، وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات، وإنما اختلفت في الأحكام، ولذلك نقول: إن لفظة التوحيد (لا إله إلا الله) قاسم مشترك بين جميع الأنبياء، وكل الأنبياء دعوا إليها، واختلفوا في الأحكام، والشريعة تختلف، لذلك فمن الممكن أن نقول: الرسالات السماوية، ولا ينبغي أن نقول: الديانات السماوية؛ فهذا كذب وضلال مبين، إذ لا يوجد شيء اسمه: (الديانات السماوية) بصيغة الجمع؛ لأن السماء لم ينزل منها إلا دين واحد، وكل الأنبياء دعوا إلى الإسلام، لكن التحريف هو الذي فعل ذلك، فادعاء أن الأديان المحرّفة الموجودة حالياً كلها سماوية هذا من الضلال المبين؛ لأن السماء لم ينزل منها غير دين واحد فقط، وهو دين الإسلام، فآدم كان مسلماً نوح كان مسلماً موسى دعا إلى الإسلام عيسى دعا إلى الإسلام هود دعا إلى الإسلام صالح دعا إلى الإسلام وهكذا جميع الأنبياء دعوا إلى الإسلام، فلذلك إذا قرأت قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩] فإياك أن تظن أن الإسلام هو الرسالة الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا، بل معنى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩] أي: منذ أن خلق الله الدنيا والناس كلهم مطالبون بالإسلام، والأدلة في القرآن على ذلك أكثر من أن تُحصر، ووصف الأنبياء بالإسلام شائع جداً في القرآن الكريم.

فجميع الأنبياء متّحدون في العقيدة، وقد يختلفون في الشرائع، فمن الممكن أن نقول: شرائع سماوية، أو رسالات سماوية؛ لأنها رسالات متعددة، لكن لا نقول أبداً: الأديان السماوية كما سبق.

والحق لابد أن يكون واحداً، فكيف يقال عن النصرانية المحرّفة أنها دين سماوي في سياق المدح؟! وفيها: لا إله إلا الله، ليس عيسى رسول الله، حيث يزعمون أن عيسى هو الله!! أو أن الآلهة ثلاثة!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وفي اليهودية نجد إلحاداً في أسماء الله وصفاته، فكيف يكون هذا أيضاً دين سماوي؟! الدين السماوي هو دين موسى وعيسى وآدم ومحمد ونوح وجميع الأنبياء، فهؤلاء كلهم دعوا إلى: لا إله إلا الله، واختلفوا في الشرائع لاختلاف الأمم والظروف، إلى أن جاءت الشريعة الخاتمة التي يصلح بها كل زمان وكل مكان.

إذاً: لا تختلف النبوات على الإطلاق في الدعوة إلى: لا إله إلا الله، وإنما يختلفون في الأحكام، مثل: أحكام الزواج أحكام الطلاق أحكام العبادات، إلخ.

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة على أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود؛ لأن الدليل إما معقول وإما منقول: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:١٠].

وقال قتادة: لم يُرسَل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد، روحه التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) العلات: الضرائر، أي: مثل الشخص الذي يتزوج عدة نساء ويأتي بأولاد، فهؤلاء الأولاد يكون أشقاء من جهة الأب، فالدين واحد وهو التوحيد، وكلهم متفقون على هذا الأصل.

قوله: (وأمهاتنا شتى)، أي: الشرائع تختلف، ولذلك جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بنسخ الشرائع التي قبلها، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦].

وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيرها: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ)) أي: بعثناهم بأن اعبدوا الله ووحدوه، (واجتنبوا الطاغوت) أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل ما دعا إلى الضلال.

وقال ابن كثير: (ولقد بعثنا في كل أمة) أي: في كل قرن وطائفة (رسولاً) وكلّهم يدعون إلى عبادة الله، وينهون عن عبادة ما سواه.

إذا استعرضنا بعض آيات القرآن الكريم نجد أن هذه الحقيقة هي أجلى حقائق القر