للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها]

وفي قمة هؤلاء العابدات نساء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهن، ويتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين وآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى رأس هؤلاء جميعاً أم المؤمنين أم عبد الله الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سموات، حبيبة خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء على الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد.

وقال القاسم: كانت عائشة تصوم الدهر.

ويحمل هذا على أنها كانت تصوم ما سوى الأيام المنهي عن صيامها، كأيام الحيض، وأيام التشريق، ويوم العيد.

وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم.

وعن القاسم أنها كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.

وقال عروة: كنت إذا غدوت -يعني: خرجت في الصباح- أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح -أي: تصلي النافلة، ولعلها كانت تصلي الضحى والله أعلم- وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:٢٧] فتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام -أي: وقف ينتظرها حتى مل القيام والوقوف- فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي.

وعن عروة قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به، فقال عروة: بعث معاوية رضي الله عنه مرة إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف درهم، فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت.

وعنه أيضاً قال: إن عائشة تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها.

وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة -وكانت تغشى عائشة وتتردد عليها- قالت: بعث إلى عائشة ابن الزبير بمال في غرارتين -قالت: أراه ثمانين ومائة ألف-، فبعث بطبق -وهي صائمة يومئذ- فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري -أي: أحضري فطوري-، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت -مما قسمت اليوم- أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟! قالت: لا تعنتيني، لو كنت أذكرتيني لفعلت.

وعن عبد الواحد بن أيمن الحبشي قال: حدثني أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطر ثمنه خمسة دراهم، وقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي فانظر إليها، فإنها تزهى أن تلبسه في البيت -أي: أنّ الجارية كانت تستنكف أن تلبس مثل هذا الثوب الذي على عائشة وهي في البيت- وقد كان لي منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين في المدينة إلا أرسلت إلي تستعيره.

أي: يستعرنه في المناسبات كي يلبسنه.

وعن عبد الله بن أبي مليكة أنه جاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن.

وذلك حينما كانت تحتضر رضي الله عنها.

ولا يخفى على مسلم مكانة عائشة رضي الله عنها ومقامها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يحبها إلا من كانت أمه فهي أم المؤمنين، ومن أبغضها فليس من المؤمنين.

وفضائل عائشة رضي الله عنها كثيرة جداً تحتاج لدروس كثيرة مستقلة، ويكفي في فضلها وشرفها رضي الله تبارك وتعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان على وشك أن يفارق الدنيا اختار حبيبه لخلافته في الصلاة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واختار المكان الذي يقبض فيه وهو بيت عائشة رضي الله عنها، وهي ابنة أبي بكر رضي الله عنه، فتباً وسحقاً للرافضة الذين يلعنونهما ويتقربون إلى الله ببغضهما، فهم المطرودون المبعدون.

فحينما كانت أم المؤمنين رضي الله عنها في وقت احتضارها وهي تشرف على الموت قال لها عبد الله بن أبي مليكة: هذا ابن عباس يستأذن -يعني: يستأذن على أم المؤمنين- فقالت: دعني من ابن عباس.

تعني: لا تدخلوا ابن عباس؛ لأنّها كانت تعلم شدة حب ابن عباس لها، ولعله إذا دخل عليها جعل يمدحها ويرجيها، كما هي السنة أنك إذا حضرت رجلاً يحتضر فلا يناسب أن تكثر من ذكر الخوف؛ لأنّ ذكر الخوف قد يخرج به إلى القنوط، فذكر الخوف ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو باعث ومحرك حتى تعمل، وحتى تسعى إلى العمل، أما إذا انقضت المهلة ولم يبقَ وقت تعمل فيه فإن الخوف مع عدم إمكان العمل قد يؤدي إلى القنوط، والله تعالى يقول: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] لذا فإنّ المستحب إذا حضرت شخصاً مسلماً يحتضر أن تذكره بما فعل من الأعمال الصالحة، وأن تذكره بأعماله الطيبة، مثل أن تقول: لقد كنت تصلي جماعة، وكنت تكثر من ذكر الله، وكنت تتقي الحرام، ويذكره بالأعمال الصالحة حتى يدخل في الرجاء ويقبل على الله تبارك وتعالى وهو يحسن الظن به.

فالمقصود أن أم المؤمنين قالت: دعني من ابن عباس.

فقال لها: يا أماه! إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلم عليك ويودعك! فقالت: ائذن له إن شئت.

فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد -لأنه كان يؤمن أنها زوجته في الجنة رضي الله عنها- كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل.

وهذه القصة هي أنه حينما سقطت قلادتها أوقف الرسول عليه الصلاة والسلام جميع الجيش الذين معه ليبحثوا عن قلادة عائشة رضي الله عنها ليلة كاملة، فغضب منها أبو بكر رضي الله عنه لما علم أنهم أنما حبسوا بسببها، فأتاها ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذها، فجعل أبو بكر يطعن في خاصرتها ويقول: حبستينا.

فكانت تتألم جداً من هذا الضرب، ولكنها لم تتحرك حتى لا يستيقظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانت تثبت في مكانها رغم شدة هذا الطعن الذي كان يطعنها به أبو بكر رضي الله عنه في خاصرتها، ويوبخها بأنها تسببت في حبس المسلمين، فأصبح الناس وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:٤٣].

فحينئذ تيمموا، وأرادوا أن يرحلوا فإذا بالقلادة تحت جملها الذي كان باركاً.

فالشاهد أن ابن عباس قال لها في ضمن مناقبها رضي الله عنها: وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل، فأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:٤٣]، وكان ذلك بسببك.

ولذلك قال أسيد بن حضير لها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

أي: ليست هي أول بركتكم على الأمة، فإن لكم بركات كثيرة.

قال ابن عباس: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح وليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه إلا تتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.

فردت أم المؤمنين رضي الله عنها: يا ابن عباس! دعني منك ومن تزكيتك، فو الله لوددت أني كنت نسياً منسياً.