للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان معنى (القيوم) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى]

قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (الحي) كمال الأوصاف، و (القيوم) تعبير عن كمال الأفعال، أما وزن (القيوم) فهو: (فيعول) مأخوذ من القيام، ومعنى ذلك: أنه جل جلاله قائم بأمر الخلق برزقه ورعايته وحفظه، وما من شيء إلا وإقامته بأمره وتدبيره سبحانه وتعالى.

قال القرطبي: وأما قوله: (القيوم) فإنه (الفيعول) من القيام، وأصله: القيوُوْم، بواوين.

وقال أبو حيان: القيوم على وزن (فيعول) أصله: قيووم، اجتمعت الياء والواو واستبقت إحداهما بالسكون، فقُلبتْ الواو ياءً وأُدغمت فيها الياء.

أما معناه: فقال قتادة: القيوم: القائم بتدبير خلقه.

وقال الربيع: القيوم: قيّم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.

وقال الطبري: القيوم: القائم برزق خلقه وحفظه.

وقال ابن كثير: القيوم: القيّم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره.

وقد وردت نصوص أخرى من القرآن الكريم تدل على أن قيام الموجودات وبقاءها وحفظها بأمر الله تعالى، ولا قوام لها بدونه.

من ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:١٩] (صافات): باسطات أجنحتهن، (ويقبضن) يعني: قابضات، (ما يمسكهن): يعني: عن الوقوع سواء في حالة البسط أو القبض، (إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير): فمن الذي يمسك الطير في السماء؟ لا أحد إلا الله سبحانه وتعالى.

وقال جل وعلا: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:٣٨ - ٣٩] (العرجون): العذق الذي عليه الشماريخ، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس:٤٠] يعني: فتجتمع معه في الليل، {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:٤٠] فلا يأتي قبل انقضائه، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠] (يسبحون): يجرون، {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:٤١] المشحون: المملوء، {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس:٤٢ - ٤٣] أي: لا مغيث لهم، {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:٤٣] يعني: ولا هم ينجون من الغرق، {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:٤٤].

فمن يأمر الشمس بالجري لمستقرٍ لها؟! ومن يقدر منازل القمر؟! ومن يمنع الشمس عن الاجتماع مع القمر؟! ومن يحجز الليل عن المجيء قبل انقضاء النهار؟! ومن يوقف النهار من الطلوع قبل انصرام الليل؟! ومن يحفظ ركاب السفن وسط موجات البحر التي هي كالجبال؟!

الجواب

إنه الله لا إله إلا هو الحي القيوم.

يقول تبارك وتعالى مبيّناً قيام السموات والأرض بأمره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:٢٥] (أن تقوم) أي: أن تدوما قائمتين، {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:٢٥].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:٤١] يعني: أن الله يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع، {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:٤١] يعني: ما يمسكهما أحد سوى الله تبارك وتعالى، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:٤١] وهذه الآية فيها ترغيب عظيم جداً، فهو الحافظ القيوم لأمرهما، الحكمة في أنه ختم الآية بقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:٤١]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو يؤاخذ الناس بما كسبوا لدمر هذا الكون، ولأزال السموات والأرض، لكنه حليم، يحلم عنهم، ويرجئهم إلى أن يتوبوا.

فهذا ترغيب في المبادرة إلى الله، وألا ينخدع الإنسان بإمهال الله إياه، ولا يغتر بصفة الحلم، بل عليه أن يبادر إلى التوبة، فإنه إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، (إنه كان حليماً) يعطيك الفرصة، ويمهلك كي تستعتب وتتوب، (غفوراً)، إذا رجعت إليه فإنه يغفر لك.

وكما بين العلماء أن لاسم (الحي) منزلة عظيمة، فكذلك بيّنوا عظم شأن اسم (القيوم).

يقول القاضي علي بن علي الحنفي شارح الطحاوية رحمه الله: فعلى هذين الاثنين: (الحي القيوم) مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيهما، فكل الأسماء الحسنى تدور حول (الحي القيوم).

ثم قال رحمه الله تعالى: وأما (القيوم) فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتمّ انتظام.

فالله سبحانه هو الغني الحليم، يقوم بنفسه ولا يحتاج إلى غيره، أما غير الله فلابد من أن يقيمه الله؛ لأنه لا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، فيجب أن نرى أفعال الله، وتدبير الله، وقيامنا بالله في كل شيء، في كل نبضة قلب في كل نفس تأخذه في كل رزق يفتح عليك به في طلوع الشمس في غروبها في كل شيء، فما من شيء إلا وهو بقدرة الله وبإقامة الله إياه، فلو لم يُقمْك الله لما قدرت على شيء، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه القيّومية هي سبب كل ما نرى في الوجود من تدبير، ومن إقامتنا.

قال السعدي رحمه الله: كما أن (القيوم) تدخل فيه جميع صفات الأفعال؛ لأنه القيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها، وأمدّها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها.

وذكر اسم (القيوم) لله عز وجل بعد (الله لا إله إلا هو) فيه ما يدل على تفرده تعالى بالألوهية والعبودية؛ لأنه هو المتفرد لقيام أمر الخلق، من رزقهم وحفظهم ورعايتهم من غير ندّ ولا شريك، فما دام لم يقم الخلق، ولم يدبر أمرهم، ولم يرزقهم، ولم يُحيهم، ولم يعافهم، ولم يفعل بهم كل هذا إلا الله عز وجل وحده، فينبغي ألا نوجّه العبادة إلا إلى الله عز وجل؛ لأنه هو المستحق وحده لجميع أنواع العبادات، دون أن يشرك معه فيها أحد.

هذا ما تيسر من استعراض هذا التفسير لجزء من آية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).

أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.

سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.