للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العابدة شعوانة رحمها الله تعالى]

قال يحيى بن بسطام: كنت أشهد مجلس شعوانة -وهي إحدى العابدات- فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب لها: لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها، فقال: أنت وذاك، قال: فأتيناها فقلت لها: لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئاً، فكان لك أقوى على ما تريدين، قال: فبكت، ثم قالت: والله لوددت أنى أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي دماً حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأنى لي بالبكاء؟! وأنى لي بالبكاء؟! فلم تزل تردد: (وأنى لي بالبكاء؟) حتى غشي عليها.

وكانت تقول في دعائها: إلهي! ما أشوقني إلى لقائك، وأعظم رجائي في جزائك، فأنت الكريم الذي لا يخيب إليك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي! إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عملي فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟! وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك؟! إلهي! قد جرت على نفسي في النظر لها، وبقي لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي! إنك لم تزل بي براً أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي! كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي؟! إلهي! إن كانت ذنوبي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني، فتول من أمري ما أنت أهله، وعد بفضلك على من غره جهله، إلهي! لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعني بما له هديتني، وأدم لي ما به سترتني.

وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كانت شعوانة قد كمدت -أي: أصابها الحزن الشديد -فكانت لا تتنفل من شدة الحزن والذهول حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال: أذري جفونك إما كنت شاجية إن النياحة قد تشفي الحزينينا جدي وقومي وصومي الدهر دائبة فإنما الدأب من فعل المطيعينا فأصبحت وأخذت في الترنم والبكاء، وراجعت العمل.

وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتُبكي النساك معها، تقول: لقد أمن المغرور دار مقامه ويوشك يوماً أن يخاف كما أمن وعن روح بن سلمة قال: قال لي مضر: ما رأيت أحداً أقوى على كثرة البكاء من شعوانة، ولا سمعت صوتاً قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشدت ثم نادت: يا موتى! وبني الموتى! وإخوة الموتى! وقال أبو عمر الضرير: من استطاع منكم أن يبكي فليبك، وإلا فليرحم الباكي؛ فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه.

وعن الحارث بن المغيرة قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين: يؤمل دنيا لتبقى له فوافى المنية قبل الأمل حثيثًا يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجل وعن الفضيل بن عياض قال: قدمت شعوانة فأتيتها، فشكوت إليها، وسألتها أن تدعو بدعاء، فقالت: يا فضيل! أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب لك؟! قال: فشهق الفضيل وخر مغشياً عليه.