للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صفة المسجد المعتكف فيه]

اختلف أهل العلم في صفة المسجد المعتكف فيه على أقوال ستة: الأول: أن الاعتكاف يصح في أي مسجد ولو كان مهجوراً لا تقام فيه الجماعة، وهذا مذهب الأئمة مالك والشافعي وداود، لكن يلزم المعتكف عند داود أن يخرج لكل صلاة إلى المسجد الذي تقام فيه الجماعة، فإن مذهبه وجوب صلاة الجماعة.

فيقول: يجوز أن يعتكف فيه وفاقاً لـ مالك والشافعي، لكن داود يقول: يجب عليه أن يخرج وقت صلاة الجماعة إلى مسجد تقام فيه الجماعة.

واشترط مالك كون المسجد جامعاً إذا كانت الجمعة تتخلل فترة اعتكاف، فالإمام مالك يقول: إذا كانت صلاة الجمعة تتخلل فترة الاعتكاف فيجب على المعتكف أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة.

قال الباجي في (شرح الموطأ): وأما المساجد التي لا تصلى فيها الجمعة فإنما يكره الاعتكاف فيها إذا كان يتصل إلى وقت صلاة الجمعة؛ لأنه يقتضي أحد أمرين ممنوعين: أحدهما: التخلف عن الجمعة.

أي: لو ظل في معتكفه الذي لا تقام فيه صلاة جمعة فسيتخلف عن الجمعة.

الثاني: الخروج من الاعتكاف إلى الجمعة، وذلك يبطل اعتكافه في المشهور من مذهب مالك، فلذلك اشترط الإمام مالك أن يعتكف في مسجد تقام فيه صلاة الجمعة، وقد روى ابن الجهم عن مالك أن الخروج إلى الجمعة لا ينقض الاعتكاف، وبه قال أبو حنيفة، واستحب الشافعي في هذا الحال أن يكون اعتكافه في مسجد جامع، ولو اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة عنده، والمراد بالمسجد غير الجامع: الذي لا تقام فيه الجمعة.

وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان: قال النووي: وبطلان اعتكافه هو المشهور من نصوص الشافعي.

المذهب الثاني: أنه لا يصح إلا في مسجد جامع.

وهو قول الزهري والحكم وحماد وأول قولي عطاء ورواية عن مالك.

واستُدل له بقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً) إلى أن قالت: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قال أبو داود: غير عبد الرحمن لا يقول فيه: السنة.

وجعله من قول عائشة.

وهذا الخبر فيه نظر من وجهين: أحدهما أن عبد الرحمن بن إسحاق المدني صاحب مناكير، وقد تفرد بقوله: (جامع).

الأمر الثاني: أن الخبر فيه إدراج من كلام الزهري، قال الإمام الدارقطني: يقال: إن قوله: (وإن السنة للمعتكف) إلى قوله: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) من كلام الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم.

المذهب الثالث: أنه لا يصح إلا في مسجد جماعة.

والفرق بين المسجد الجامع ومسجد الجماعة أنّ المسجد الجامع هو المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة، ومسجد الجماعة هو المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس في جماعة لكن لا تقام فيه صلاة الجمعة، وهو مذهب أبي حنفية وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول الحسن وعروة ورواية عن الزهري.

واحتُج له بخبر عائشة المتقدم، وقد علمت ما فيه من الإدراج.

وبحديث حذيفة مرفوعاً: (كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح)، وهو ضعيف، يقول ابن حزم: هذه سوءة لا يشتغل بها ذو فهم، جويبر أحد الرواة هالك، والضحاك ضعيف، ولم يدرك حذيفة.

قلت: ومع ضعف هذه الأدلة إلاّ أنّ هذا القول هو أعدل الأقوال وأقومها، وخصوصاً عند من يرى وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، وهذا هو الأرجح إن شاء الله، أي أن الجماعة فرض عين وليست فرض كفاية.

يقول ابن قدامة: وإنما اشتُرط ذلك -أي: كون المسجد مسجد جماعة- لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما الخروج إليها، فيتكرر ذلك كثيراً مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف؛ إذ هو لزوم المعتكَف والإقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى فيه.

المذهب الرابع: أنه لا يصح إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي.

وهذا آخر قولي عطاء، فقد روى عبد الرزاق عنه أنه قال: لا جوار -أي: لا اعتكاف- إلا في مسجد جامع.

ثم قال: لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة.

المذهب الخامس: أنه لا يصح إلا في المسجد النبوي فقط، وهو قول سعيد بن المسيب، فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة -أحسبه- عن ابن المسيب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

قال النووي: ما أظن أن هذا يصح عنه.

لكن روى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي.

وليس (في مسجد النبي)، فإذا قال: مسجد النبي فـ (أل) للعهد، فينصرف إلى مسجد المدينة، وأما على هذه الرواية (مسجد نبي) -بالتنكير- فيشمل المساجد الثلاثة.

المذهب السادس -وهو المقصود بالكلام في هذا الموضوع-: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

وهو قول حذيفة رضي الله عنه، وقد تفرد حذيفة به، قال الطحاوي في (مشكل الآثار): حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل قال: قال حذيفة لـ عبد الله -يعني ابن مسعود -: الناس عكوف بين دارك ودار أبي موسى ولا تغير، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس)! قال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا أو أخطأت وأصابوا.

هذا الحديث يرويه الطحاوي عن شيخه محمد بن سنان الشرجي، وشيخ الطحاوي هذا قال عنه الذهبي في (الميزان): صاحب مناكير.

فهذه أول علة.

قال حدثنا هشام بن عمار، قال: وهشام في حفظه ضعف، ولما كبر تغير فصار يلقن فيتلقن، فالسند ضعيف.

وأخرجه البيهقي عن شاكر بن محمد بن حسين العلوي عن محمد بن حمدويه بن سهل الغازي عن محمود بن آدم المروزي عن ابن عيينة به.

وأخرجه الذهبي في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة ابن حمدويه من طريق آخر عن العلوي به، وقال: صحيح غريب عال.