للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوكل على الله]

ومن أسباب الرزق: التوكل على الله سبحانه وتعالى.

قال الغزالي: التوكل هو اعتماد القلب على الله سبحانه وتعالى الذي يفوض المؤمن إليه أمره.

وقال: المناوي: التوكل إظهار العجز والاعتماد على المتوكل عليه.

فتظهر العجز والضعف لله سبحانه وتعالى، وتعتمد عليه وحده عز وجل، فتؤمن بأنه لا فاعل في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، ونفع وضر، وفقر وغنى، ومرض وصحة، وموت وحياة، وكل ما يطلق عليه اسم الوجود فهو من الله سبحانه وتعالى.

ومن الأدلة على كون التوكل سبباً من أسباب إدرار الرزق ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).

والطير جمع طائر يذكر ويؤنث.

(تغدو): تذهب أول النهار.

(خماصاً) جمع خميص، يعني جياعاً.

(وتروح): ترجع آخر النهار وقد امتلأت حواصلها (بطاناً): جمع بطين وهو عظيم البطن، والمراد شباعاً، فما بين ذلك تسعى والله سبحانه وتعالى هو الذي يتكفل برزقها.

ففي هذا الحديث يبين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن المتوكل على الله حق التوكل مرزوق كما ترزق الطير؛ لأنه توكل على الحي الذي لا يموت، وأن من توكل على الله فهو حسبه، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣] أي: فهو كافيه، فإذا توكلت واعتمدت على الله وحده، فإنه يكفيك، ولن تحتاج إلى وكيل غيره، فهو عز وجل يتولى كل أمرك، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:٣].

ومن المقرر والمعلوم أن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يستلزم ترك الكسب، كما يعتقد الجاهلون بحقيقة التوكل، وقد يستدل بعضهم بهذا الحديث، والحديث فيه ما يرد عليهم؛ لأن الرسول عليه السلام لما ضرب لنا هذا المثل، فينبغي أن نأخذ بكل أركانه، فقوله: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، دليل على أنها تغدو وتروح، فعندها حركة وسعي مع التوكل على الله سبحانه وتعالى، فكذلك على الإنسان أن يسعى إلى الرزق احتراماً للشرع؛ لأن الشرع أمر بفعل الأسباب، لكن لا يتعلق بالأسباب بل بخالق الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه هو الرازق في الحقيقة.

فنحن نأخذ بالأسباب لأن الله أمرنا بالأخذ بالأسباب.

قال العلماء: ترك الأسباب قدح في الشرع، والتعلق بالأسباب قدح في التوحيد.

فنحن نأخذ بالأسباب لكن لا نعلق قلوبنا بالأسباب؛ لأنها مخلوقة، وإنما يجب أن تتعلق القلوب بالله عز وجل، فالطيور تخرج وتروح وتسعى وتتوكل على الله سبحانه وتعالى، فالله يكفيها أمرها مع أنها لا تعقل ولا تعي ولا تخطط ولا تفهم ولا تدبر، وإنما الله عز وجل هو الذي يرزقها.

يقول الإمام أحمد: ليس في الحديث ما يدل على ترك الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده، لم ينطلقوا إلا غانمين سالمين كالطير.

وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي! فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي).

والأخذ بالأسباب أمر مشهور ومعروف في الشريعة، ومواطنه في القرآن الكريم كثيرة جداً منها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٥]، كان يمكن أنها بمجرد أن ترفع رأسها يسقط الرطب بقدرة الله، لكن هذا إشارة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التعلق بخالق الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى.

وقال سبحانه عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:٢١]، فموسى عليه السلام أخذ بأسباب النجاة من فرعون، فإنه لما علم أنهم يتآمرون على قتله خرج منها خائفاً يترقب.

وقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسباب في رحلة الهجرة، وهي مواقف مشهورة لا نحتاج إلى ذكرها.

والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يتجرون ويعملون في نخيلهم.

قال الإمام أبو حامد: قد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، أو كلحمة على وضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكل، فيكف يُنالُ مقامٌ من مقامات الدين بمحظور من محظورات الدين؟! يعني أن التوكل محمود في الشريعة، وترك الأسباب محرم في الشريعة، فهؤلاء الذين يتركون الأسباب ويزعمون أن ذلك من التوكل آثمون، وهل يوصل إلى مقام من المقامات المحمودة في الدين بوسيلة محرمة؟! لا يمكن أن تكون الوسيلة إلى الواجب أو المستحب محرمة، فالوسائل والأسباب تأخذ حكم المقاصد، ليس عندنا مبدأ: الغاية تبرر الوسيلة، بل لا بد أن تكون الوسيلة مشروعة والغاية مشروعة كذلك.

وقال القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل في القلب؛ لأن التوكل عبادة قلبية مثل التوبة والإخلاص والإنابة واليقين.

وكل هذه العبادات تؤدى بالقلب، فالتوكل عبادة محلها القلب، أما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب بعدما يعتقد العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعثر شيء فبتقديره، وإن تيسر شيء فبتيسيره، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل فقال له: اعقلها وتوكل)، أما أن تترك الناقة مطلقة دون أن تربطها بخطام ولا زمام ثم تقول: أتوكل على الله؛ فهذا ليس بتوكل، وهكذا لا ينبغي لمن جاء المسجد ومعه متاع أن يتركه عند الباب ويقول: أتوكل على الله! خاصة وقد كثر الخونة الذين يخونون المصلين أثناء الصلاة، ويسرقون منهم المتاع، فهل خولك المسجد سيشفع لك إذا استحمقت وفرطت في الأسباب؟ لا، بل اعقلها وتوكل، ولا تتركها للصوص في الطريق ثم تقول: أتوكل، فخذ بالأسباب وتوكل.

بعضهم قد يترك السيارة مفتوحة ثم يسرق منها شيء، فهذا لم يعقل الناقة، بل تركها مفتوحة، وكان عليه أن يأخذ بالأسباب، ولا يتعلق بها، وهذا من التوكل على الله سبحانه وتعالى.

وفي رواية عند الإمام القضاعي أن عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أقيد راحلتي وأتوكل على الله أو أرسلها وأتوكل؟ قال: قيدها وتوكل).

إذاً: التوكل لا يقتضي ترك التكسب، بل يكد الإنسان ويجد ويسعى في طلب العيش، لكنه لا يعتمد على كده وجده وسعيه، بل يعتقد أن الأمر كله لله، وأن الرزق من الله سبحانه وتعالى وحده.