للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المشاكلة في اللغة العربية مع أمثلة لها]

المشاكلة باب من أبواب البلاغة، فمن أساليب العرب المشاكلة بين الألفاظ، فيوضع لفظ لغير معناه الموضوع له؛ مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام مثل قول الشاعر: قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً أي: أنهم عرضوا عليه أن يقترح عليهم شيئاً من طعام يجيدون له الطبخ، فأجابهم قائلاً: قلت: اطبخوا لي جبة وقميصاً، والمقصود: خيطوا لي؛ لأن الجبة والقميص لا يطبخان، لكن لما حصل الاقتران في اللفظ ذكر الطبخ في نفس السياق، وهذا نوع من المشاكلة، فاستعمل الكلمة في غير معناها، فاستعمل هنا كلمة (اطبخوا) مكان كلمة (خيطوا)؛ لوجود المشاكلة في النظم.

ومثال ذلك أيضاً قول جرير: هذه الأرامل قد قضَّيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر وهذا على القول بأن الأرامل في اللغة العربية لا تطلق إلا على الإناث، فالرجل لا يسمى أرمل، فهنا أيضاً استعمل المشاكلة بناء على أن الأرمل لا تطلق إلا على النساء.

وقد وجدت المشاكلة في كثير من آيات القرآن وفي كثير من الأحاديث كالحديث السابق: (إني أنساك كما نسيتني) فهذا من باب المشاكلة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٩٤]، فقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٩٤] هذا عدوان في الحقيقة، لكن هل مقابلة العدوان بمثله يسمى عدواناًَ؟ هو ليس بعدوان في حقيقة الأمر، بل هو انتصار أو عقوبة عاجلة، لكن سماها سبحانه وتعالى اعتداء، فقال: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فسمي عدواناً على سبيل المشاكلة.

وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠]، وفي الحقيقة أن السيئة التي يفعلها الإنسان على وجه المقابلة هي من العدل، ومن الانتصار من الظالم، لكن لأجل اقترانهما في النص، جرت هذه المشاكلة دون أن يقصد أنها سيئة، فمعاملة الظالم بما يستحقه هي في الحقيقة حسنة وليست سيئة.

ومن ذلك أيضاً: قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:١٢٦]، فهل العقوبة بمثل ما عوقبتم به يسمى عقوبة؟ لا، فإذا بدأ الإنسان بأذيتك فلك أن تعاقبه بمثل ما أساء إليك، فسمى هذه الإساءة عقوبة من باب المشاكلة أيضاً.

ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:٦٠] يعني: بمثل ما أسيء إليه ابتداء وليس مقابلة، وهو أيضاً من باب المشاكلة.

والمقصود: أن قوله سبحانه وتعالى حينما يسأل العبد: (أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني) هو من المشاكلة، والمقصود: إني أنساك، أي: أتركك من رحمتي كما نسيتني، يعني: كما نسيتني في الدنيا من طاعتي، ثم يلقى رجلاً ثانياً فيقول له مثل ذلك، يعني: من سؤال الله سبحان وتعالى له، ويجيب الثاني بنفس هذا الجواب، ثم يلقى شخصاً ثالثاً من الناس فيقول له مثل ذلك، فيقول: (آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع) يعني: يمدح نفسه بما استطاع من الخير، فيقول الرب سبحانه وتعالى: (ألا نبعث شاهدنا عليك؟) فأنت تدعي هذه الدعوة وتنكر {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣] أي: ما كنا نعمل من سوء، ويحلفون على ذلك، فيقول الله سبحانه وتعالى له: (ألا نبعث شاهدنا عليك؟) فيفكر هذا العبد الكذاب في نفسه، ويقول: من الذي يشهد علي؟ (فيختم على فيه) أي: على فمه (ويقال لفخذه: أنطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان)، وقوله: وعظامه أي: العظام المتعلقة بالفخذ.

قوله: (وذلك ليعذر من نفسه) ليعذر أي: من الإعذار، والمعنى: يزيل الله عذره من قبل نفسه؛ لكثرة ذنوبه، وشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر يتحجج به بعد شهادة أعضائه.

قوله: (وذلك المنافق) يعني: ذلك الرجل الثالث الذي يقول: صمت، وصليت، وتصدقت وكذا، لا يقول كما قال الأول والثاني عندما سأل الله كل واحد منهما (أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا)، أما هذا المنافق فيدعي ويزعم أنه صام، وصلى، وأطاع الله سبحانه وتعالى، فهذا يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه).