للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف أم سليم من موت ابنها وصبرها على ذلك]

وهذه أم سليم الرميصاء أو الغميصاء من الصالحات العظيمات اللائي لهن شأن عظيم جداً، وكانت من السابقات إلى الإسلام؛ لأنها أسلمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فبايعته حين مقدمه إلى المدينة، وكان إسلامها مراغمة لزوجها مالك بن النضر، وكان ولدها أنس بن مالك يومئذ طفلاً رضيعاً، فكانت تقول له: قل: لا إله إلا الله.

قل: أشهد أن محمداً رسول الله.

فجعل ينطق بذلك أول ما ينطق، فكان ذلك مما يثير الغضب في نفس مالك أبيه، فيقول لها: لا تفسدي عليّ ولدي.

فتقول: إني لا أفسده.

ثم إنه خرج عنها إلى الشام، وهنالك لقي عدواً له فقتله عدوه، فلما بلغها قتله وكانت شابة حدثة وكثر خطابها قالت: لا جرم لا أفطم أنساً حتى يدع ثديي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني.

فوفت بعهدها وبرت، وكان ولدها أنس بن مالك يعرف لها تلك المنة ويقول: جزى الله أمي عني خيراً لقد أحسنت ولايتي.

حتى إذا شب أنس تقدم لخطبتها أبو طلحة زيد بن سهل وكان مشركاً فأبت، ثم قالت له يوماً: أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار فينجرها لك هل يضرك؟ هل ينفعك؟ وأكثرت من عتبه، فوقع في قلبه الذي قالت، فأتاها فقال: لقد وقع في قلبي الذي قلت.

وآمن بين يديها فقالت: إني أتزوجك ولا أريد منك صداقاً غير الإسلام.

قال ثابت: فما سمعت من امرأة قط كانت أكرم مهراً من أم سليم لقد كان مهرها الإسلام.

نعم لقد كان أكرم وأشرف وأغلى مهر في الدنيا؛ لأنها تزوجته على أن يدخل في دين الإسلام.

حدث أنس بن مالك عن أمه أم سليم بنت ملحان الأنصارية زوج أبي طلحة زيد بن سهل قال: (مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه.

فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان.

وقدمت له عشاءه فتعشى هو وأصحابه الذي قدموا معه، ثم أتما ليلتهما على أحسن حال، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة! ألم تر إلى آل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طُلبت منهم شق عليهم! قال: ما أنصفوا.

قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله فقبضه إليه.

فاسترجع وحمد الله وقال: والله ما أدعك تغلبينني على الصبر.

حتى إذا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حضر عنده اشتكى له كيف أنها تصنعت له حتى وقع عليها وابنه ميت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في غابر ليلتكما) فحملت منه تلك الليلة عبد الله بن أبي طلحة، ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، ولم يمت عبد الله بن أبي طلحة حتى رزق عشرة من البنين كلهم حفظ القرآن وأبلى -أي: جاهد في سبيل الله تبارك وتعالى- واستشهد عبد الله بن أبي طلحة في الجهاد بفارس.