للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مستمع الغيبة والمغتاب مشتركان في الإثم

مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ماعز - فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات يقول: أتيت امرأة حراماً، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الحديث إلى أن قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني) ومعروف أنه إذا بلغ الحد الإمام فلا رجوع فيه، وهنا

السؤال

من أتى ذنباً يستوجب حداً في مثل هذا الزمان الذي لا تقام فيه الحدود إلا نادراً في بعض البلاد، هل يعمل مثل ماعز.

الجواب

لا، حتى لو كان في مجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم -الذين هم خير أمة أخرجت للناس-، فلو كانت الحدود تقام فليس على كل من فعل ذنباً أن يذهب إلى الخليفة ويعترف عنده ليقام عليه الحد، بل الواجب عليه أن يستر نفسه حتى في ظل الدولة الإسلامية التي تقيم الحدود، وهو يكافأ إن ستر على نفسه في الدنيا أن يستر الله في الآخرة، فيقرره الله بذنوبه يوم القيامة فيقول له: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فإذا ظن أنه هالك لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى له: (فأنا أسترها عليك اليوم كما سترتها عليك في الدنيا)، فإن الله سبحانه وتعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، ومن أعظم ما يحبه أن يستر العبد على نفسه وعلى إخوانه.

فإذا ابتلي الإنسان بشيء من هذه المعاصي أو القبائح فينبغي أن يستر على نفسه ولا يحدث بذلك أحداً، وقد جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، والمجاهرون هم الذين يأتي أحدهم الذنب بالليل فإذا أصبح يهتك ستر الله عليه ويقول: قد فعلت كيت، ويحكي للناس ما فعل، فهذا يعاقب بأن الله لا يغفر له ولا يعافيه؛ لأنه ضاد الله فيما يحبه، فالله ستير يحب الستر، وفي الحديث: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فينبغي الاهتمام بهذا الأمر، حتى ولو في ظل دولة الخلافة الإسلامية، فالعاصي غير مطالب بأن يذهب للإمام ويهتك ستر نفسه، لكنه مطالب طلباً أكيداً أن يستر على نفسه، ويرجو رحمة الله وعفوه، وإن جهر بذلك وفضح نفسه فإنه يعاقب، فإذا بلغت توبته إلى هذا الحد، وحرص على أن يطهره الله، وبلغ الإمام ذنبه؛ فلا رجوع في الحد، لذلك لما اعترف ماعز بالزنا أراد النبي عليه السلام أن يدفع عنه ذلك فقال له: (لعلك فعلت كذا أو كذا)، بما هو أخف من الفاحشة، فأقر وصرح تصريحاً لا لبس فيه بأنه أتى بالفعل هذا الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجيفة حمار شائل برجله -والشائل: هو كل ما ارتفع، والارتفاع ينشأ من التعفن والغازات في داخل أمعاء الحمار فتتراكم فترفع الرجلين، فالعضلات تتصلب، والغازات تدفعه من شدة التعفن- فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: ها نحن يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة) وقوله: (أشد) بصيغة أفعل التفضيل، فما وجه هذه التفضيل؟ معناه أن الذنب الذي ارتكبتماه بغيبة هذا المسلم الذي أقيم عليه الحد وطهر منه أشد عند الله سبحانه وتعالى من أكل جيفة الحمار المتعفن؛ لأن من يأكل جيفة الحمار لا يكون قد آذى مسلماً، لكن من وقع في الغيبة فقد آذى مسلماً، وانتهك عرضه، وانشغلت ذمته بحقوق العباد، فهذا خير ممن يأكلون لحوم البشر! وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كلا من جيفة هذا الحمار) فخاطب المتكلم وجليسه، وقال: (ما نلتما)، استعمل صيغة المثنى، مع أن الذي اغتاب كان واحداً، لكن الآخر استمع وأقر ولم ينكر عليه، فهذا نذير خطر؛ وما أكثر ما يجلس الإنسان في مجالس آكلي لحوم البشر! وهذه بلية موجودة حتى في أهل الدين والطاعة، كيف تجلس في مجالس الغيبة وتسكت وتقر، إما أن تزيل المنكر وتنكر على هذا المتكلم وإما أن تترك المكان وتفارقه، وإن كنت لا تقوى على هذين الأمرين فاتق مخالطة الناس ما استطعت، فإن من أكثر المخالطة لا يكاد يسلم في هذا الزمان من الوقوع في الغيبة.

والمغتاب لو أنه في كل مجلس يجد من يزجره أو يهجره ويترك المجلس؛ لانتبه وأحس بجريمته، فإن كان لا يستحي من الله فقد يخشى هجرة الناس إياه، فلو أنه في كل مجلس وجد من يزجره لتوقف عن الغيبة وانتهى عنها، لكن نحن نساعده بالسكوت والإقرار إن لم يكن بالمشاركة والمؤازرة.

إذاً: هذا الحديث دليل على أن الذي يسمع المنكر ويسكت ويقر كمرتكب الجريمة، وكلاهما سواء في الوزر؛ ولذلك قال: (كلا) وقال: (ما نلتما من عرض أخيكما) فنسب الوزر إليهما جميعاً.

ومثله قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:١٤] هل عقر الناقة كل القبيلة أم واحد؟ هو واحد، لكن الباقون كانوا مقرين وموافقين، فنسب الفعل إليهم أجمعين.

وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم نوم بيتكم -يعني: أن نومه يشبه نوم البيت لا نوم السفر، يريد بذلك أن يعيبه بكثرة النوم، يعني: أنه ينبغي له في حالة السفر أن ينام نوماً خفيفاً ويكمل الرحلة- فلما تأخر عن إعداد الطعام لهما، قال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم -يعني: يوافق- نوم بيتكم، فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك -يعني: يطلبان منك الإدام، وهو ما يؤكل مع الخبز- فلما ذهب الرجل الخادم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فقال الرسول رداً عليه: إنهما قد ائتدما، فلما رجع وأخبرهما فزع أبو بكر وعمر وجاءا مسرعين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟! قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه بين أنيابكما)، وفي رواية: (والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه من ثناياكما، قالا: فاستغفر لنا، قال: هو فليستغفر لكما) يعني: صاحب الحق هو الذي يطلب عفوه، ويستغفر لكما.

فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما)، وقوله أيضاً: (بين أنيابكما)، وقوله: (هو فليستغفر لكما)، كل هذا يدل على أنهما سواء في الوزر، مع أن الذي تكلم واحد، والآخر لم ينكر عليه.

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخش ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: اسكت وهو يشتهي بقلبه استمرارها -ويحب أن يزود الكلام ليتشفى، خاصة إذا كان بينه وبينه عداوة، ويقول ذلك نفاقاً؛ لا يخرجه عن الإثم، ولابد من كراهته بقلبه، يعني: لو كان يشتهي الزيادة، فمعنى ذلك أن قلبه يحب المعصية، ومعلوم أن إنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، لا يعذر فيه أحد أبداً، لكن الإنكار باللسان وباليد أحياناً لا يستطيعه الإنسان، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ثم سكت بعده؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، لكن قال: (وذلك أضعف الإيمان)، فلابد أن يكره المسلم الإثم بقلبه، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإنكار أو أنكر فلم يسمع منه ولم يمكنه المفارقة بطريق؛ حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، وفي هذه الحالة طريقه: أن يذكر الله تعالى بلسانه أو بقلبه، ويفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرون في الغيبة وجب عليه المفارقة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:٦٨].

وعن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له: نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه