للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انتشار الفهم السيئ والتطبيق الخاطئ لمصطلحات الفقهاء في السنة والمستحب]

وقال الغزالي رحمه الله في كلام له في هذا الصدد: (اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، لست أقول ذلك في آدابه في العبادات فقط؛ لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة في غيرها، بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يتحقق الاتباع المطلق).

يعني: حتى يتحقق الاتباع المطلق لابد من الاقتداء بكل ما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:٣١]، فجاء الأمر بالاتباع اتباعاً مطلقاً.

فما أكثر ما نُسيء استعمال ألفاظ العلماء والفقهاء! وموضوع التفريق بين السنة والمستحب والنوافل وهذه الاصطلاحات التي أنشئت متأخرة عن زمن الوحي وعن القرون الأولى، هذا من باب التصنيف والتسهيل على طالب العلم، لكننا اعتدنا الآن أن نرى أناساً يسيئون فهم هذا التصنيف، فهذا التصنيف ما قُصد به أن تأتي بما شئت من الفرائض حتماً ولزوماً، لكن أنت مخير في الإتيان بالسنة أو تركها، فمثل هذه المفاهيم مخالفة لهدي السلف الصالح، فعلى الإنسان ألا ينظر للسنة بأنها شيء يسهل ويهون على الإنسان أن يفرط فيه، ولا يشعر بمصيبة إن فاته.

كما يحصل أيضاً في جانب طلب الترك غير اللازم كما في المكروه، فالناس أيضاً تعودوا أن يستعملوا اصطلاح (المكروه)؛ وأن المكروه شيء يمكن فعله، فتكلم أحدهم في السجائر فيقول: بعض العلماء قالوا: مكروه.

يعني: مكروه كأنه لا حرج في أن يأتي بمكروه.

فمثل هذا التقسيم ما أُريد به أن ينصبغ المسلمون بهذه الصبغة التي يشيع فيها التساهل والتفريط وهوان السنة على قلوبهم، وإنما هو لإعطاء الأمور مراتبها فقط، وما قُصد به هذا الفهم السيئ، يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، فقوله: (ما آتاكم): هذه تفيد العموم، فلا يليق بعاقل بعد ذلك أن يتساهل في امتثال السنة، ولا شك أن غربة الإسلام في زماننا تُعتبر عنصر ضغط على المتبعين لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن الإنسان يصبر، فما هي إلا أيام قلائل ويُطوى هذا العمر، ثم يجني ثمرة صبره على هذه الغربة، ويكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (طوبى للغرباء؛ أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

يقول الغزالي: (فهل بعد ذلك يليق بعاقل أن يتساهل في امتثال السنة، فيقول: هذا من قبيل العادات فلا معنى للاتباع فيه؟! فإن ذلك يغلق عنه باباً عظيماً من أبواب السعادة)، أي: أن هذا يحرم نفسه من باب عظيم جداً من أبواب السعادة وهو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع موارده ومصادره، وفي كل أحواله، وفي حركاته وسكناته.

يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى في (الشفاء): (وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس، وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة: فما زلت أحب الدباء من يومئذٍ).

فانظر إلى شدة المحبة! واتباع السنة ثمرة طبيعية للمحبة، وكلما قرت المحبة في القلب حرص الإنسان على أن يقتدي بمحبوبه، وهذا نراه في أحوال الناس، حتى الذين يقتدون بلاعبي الكرة أو بالممثلين أو بالفنانين، حيث تجد أحدهم يغير شكله لشدة محبته لهذا الشخص بما يتوافق مع هيئته، ويهتم جداً بماذا يأكل وماذا يلبس، وأي الألوان يحب، وأي الطعام يحب، وما هو المشروب المفضل عنده! وكل هذه التفاهات في أمثال هؤلاء الناس، فأولى ثم أولى أن يتحرى المسلمون الاتباع المطلق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا ابن جعفر أيضاً رضي الله تعالى عنهما أتوا سلمى، وسألوها أن تصنع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطعام الذي طلبوه لا يريدونه طعاماً أي طعام، وإنما بشرط أن يكون مما كان يحب ويعجب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية، ويصبغ بالصفرة؛ إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.