للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان معنى التأويل]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقف كثير من السلف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧]، وهو وقف صحيح لكن لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه، وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك.

فإن التأويل يراد به ثلاث معان: فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين: هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك].

وهذا تأويل حادث باطل، فيقولون في تعريف التأويل: أنه صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، فمثلاً يقولون عند تفسيرهم الاستواء: الاستواء معناه: الاستقرار، فنصرفه عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح وهو استولى؛ لدليل يقترن به وهو العقل، فالعقل دل على أن الاستواء لا يليق بالله بزعمهم، وهذا باطل، وإنما التأويل عند السلف له معنيان: المعنى الأول: التفسير، ومنه قول ابن جرير القول في تأويل قول الله تعالى أي: في تفسيرها.

والثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، يعني: حقيقتها التي يؤول إليها، حقائق الصفات، وحقائق الجنة وما أخبر الله به في الجنة، كل هذا لا يعلمه إلا الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلاً على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً مخالف لمدلولها لا يعلمه إلا الله أو يعلمه المتأولون، والأقرب ولا يعلمه المتأولون؛ لأن هذا ظاهر الآية.

ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجرى على ظاهرها، فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله، وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم].

ووجه التناقض في قولهم: تجرى على ظاهرها ثم يقولون، لها تأويل لا يعلمه إلا الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمعنى الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام -سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه- وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم].

قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:٧]، أي: تفسيره {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:٧]، فالتأويل على هذا المعنى يكون معناه التفسير.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:٧]، كما نقل ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ومحمد بن إسحاق، وابن قتيبة، وغيرهم، وكلا القولين حق باعتبار، كما قد بسطناه في موضع آخر، ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا، وكلاهما حق.

والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان ويعبر عنه باللسان].

فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب هو نفس الأكل والشرب، فإذا دخل المؤمنون الجنة وباشروا الأكل والشرب كانت هذه هي الحقيقة، وما أخبر الله به من قيام الساعة، فتأويله قيام الساعة نفسها.

ومنه قول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه سورة الفتح يكثر أن يقول: (سبحانك الله ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن)، فقولها: (يتأول) أي: يعمل به، ومنه قول يوسف عليه الصلاة والسلام لما سجد له أبواه وإخوته: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:١٠٠]، فكما هو معلوم أنه رأى رؤيا وهو صغير فأخبر بها أباه قال تعالى عنه: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:٤]، ثم ذهب به إخوته وألقوه في الجب، وباعوه، وذهب به إلى امرأة العزيز، فراودته ثم سجن، ثم صار على خزائن الملك، ثم جاء إليه أبواه وإخوته وسجدوا له، فحدث تأويل الرؤيا، وذلك قوله تعالى: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:١٠٠]، أي: حقيقتها وما آلت إليه فوقوعها هو تأويلها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:١٠٠]، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:٥٣]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:٥٩].

وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله.

وتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله بعلمها وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف -كـ مالك وغيره-: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فالاستواء معلوم يعلم معناه وتفسيره ويترجم بلغة أخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما ذكره عبد الرزاق وغيره، في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، من ادعى علمه فهو كاذب.

وهذا كما قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:١٧]].

قوله: تفسير لا يعلمه إلا الله، يريد الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، فلا يعلم حقائق الصفات إلا الله عز وجل، ولا يعلم حقائق ما يكون في الآخرة إلا الله عز وجل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)].

وهذا حديث قدسي من كلام الله، رواه البخاري ومسلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك علم الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به، ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه كما قال تعالى].

قوله: ما قصد إفهامنا إياه، أي أن الإنسان يفهم ما أريد به، لكن الحقيقة والكنه، لا يعلمها إلا الله؛ لأننا نفهم إذا أخبرنا الله أن في الجنة ماء ولبن وخمر وعسل، إذ لا بد من قدر مشترك، يفهم به الإنسان الخطاب.

لكن كيفية هذا الماء وكيفية هذا اللبن، وكيفية هذا الخمر، وكيفية هذا العسل، والحقيقة التي هو عليها لا يعلمها إلا الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>