للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عدم سقوط التكليف عن العاقل المستطيع]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والناس طبقات والدين الحنيفية السمحة.

وإن مما نعتقده: أن العبد ما دام أحكام الدار جارية عليه فلا يسقط عنه الخوف والرجاء].

وتكون أحكام الدار جارية عليه إذا كان حياً ولم تصل الروح إلى الحلقوم، فأحكام الدار جارية عليه، فإذا كان عقله ثابتاً لا يسقط عنه الخوف والرجاء، فيخاف من الله، ويخاف من عقابه ويرجو، ويجمع بين الخوف والرجاء.

فالقنوط واليأس من روح الله هذا شؤم، فالمؤمن بين الخوف والرجاء، يعبد الله بالخوف والرجاء، فهو يخاف؛ حتى لا يسترسل في المعاصي، فيمنعه الخوف من ارتكاب المعاصي، وهو أيضاً يرجو رحمة الله وثوابه؛ حتى لا يتشاءم ولا يقنط ولا يسيء الظن بالله، فهو خائف غير مرتكب المعاصي، وراج غير قانط وغير متشائم وغير مسيء الظن بالله، بل يكون يرجو رحمة الله، فلا يطغى به الأمن حتى يرتكب المعاصي، ولا يزيد في الخوف حتى يقنط ويتشاءم ويسيء الظن بالله، بل بين الخوف والرجاء، يعبد الله بين الخوف والرجاء كجناحي الطائر، قال تعالى عن عباده المؤمنين: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:١٦]، وقال عن أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:٩٠]، وقال سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:٥٧].

قال: [وكل من ادعى الأمن فهو جاهل بالله وبما أخبر به عن نفسه، {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩]، وقد أفردت كشف عورات كل من قال بذلك.

ونعتقد: أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه].

وهذا أجمع عليه المسلمون، وهو مقتضى النصوص: أن كل عاقل عالم لا تسقط عنه التكاليف؛ لقول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩]، وإذا مات سقط عنه التكاليف، ولا تسقط التكاليف إلا بأحد أمرين: إما رفع العقل، فإذا رفع العقل سواء كان صغيراً لم يبلغ أو مجنوناً أو مغمى عليه، فهذا تسقط عنه التكاليف، والثاني: الموت إذا مات، أما ما دام العقل ثابتاً والحياة موجودة، فإنه يكلف ولا تسقط عنه التكاليف، وقالت الصوفية بترك التكاليف عن بعض الخواص الذين وصلوا إلى مرتبة عالية، وتجاوزوا مرتبة العوام، وزعموا بأن التكاليف تسقط عنهم، واستدلوا بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] قالوا: اليقين: العلم، لو وصل العلم فقد رفع عنه التكاليف، وهذا كفر وضلال، أن يقسم الناس إلى طبقات، فالعامة عليهم التكاليف، ومن العامة الأنبياء والرسل، والخاصة تسقط عنهم التكاليف؛ لأنه وصل إلى الله، وتجاوز مرتبة العوام، وخاصة الخاصة عندهم والعياذ بالله الملاحدة الذين يقولون بالحلولية، وهذا كفر وضلال.

وقد أجمع العلماء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن من قال: هناك أحد تسقط عنه التكاليف وعقله ثابت في زمن الحياة يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً نعوذ بالله، إلا إذا فقد العقل فهو معذور لأنه قد رفع عنه القلم، قال الله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] يعني: الموت.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعتقد: أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه، فيبقى على أحكام القوة والاستطاعة، إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين].

والأنبياء هم خير الناس، ومع ذلك هم أعظم الناس عبودية لله، وهم الذين وفوا مقام العبودية حقها عليهم الصلاة والسلام، وأشرف مقامات نبينا صلى الله عليه وسلم العبودية خاصة والرسالة، ولهذا وفى الله بالعبودية في المقامات العالية في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣].

وفي الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:١].

وفي مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:١٩].

فأشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم العبودية خاصة والرسالة، فكيف بغيره؟! فإن قيل: ما حكم تزويج الأب ابنته من شخص يعتقد اعتقاداً كفرياً؟

الجواب

إذا زوج الأب شخصاً يعتقد اعتقاداً كفرياً فالزواج باطل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:١٠]، فالمؤمنات لسن حلاً للكافرين ولا هم يحلون لهن، قال الله: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:٢٢١] يعني: المشرك لا يزوج بمؤمنة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذ لم يسقط ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج من رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأحدية المبدئية بعلائق الآخرية فهو كافر لا محالة].

هذا اعتقاد الصوفية، يخرج إلى الفضاء ويتحرر من الدين، ويتحرر من الأوامر والنواهي؛ لأن الصوفية يزعمون أنه وصل إلى الله، فقد تحرر وخرج من العبودية والرق إلى فضاء الحرية، فيعمل ما يشاء، وتسقط عنه التكاليف: فيزني، ويسرق، وهكذا، ولهذا بعض الصوفية والعياذ بالله يعملون مع شيوخهم الصوفية ما يشاءون، وشيخ الصوفية لا يمنع من شيء، قد يدخل على ابنته ولا يمنعه، يدخل على بيته وعلى أهله ويفعل ما يشاء ولا يمنع؛ لأنه سقطت عنه التكاليف، وهذا كفر وضلال، وإذا كانوا يزعمون أنه يصل إلى الأحدية، يعني: الأحد، يكون واحداً، يعني: يتحد مع الله، هذا قول الاتحادية، وهذا كفر، يقول: الموحد في الوجود، الرب عبد والعبد رب، أنت الرب وأنت العبد، لا فرق بينهما، ورئيس الاتحادية هو ابن عربي الذي يقول: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف يقول: لا أدري أيهما العبد وأيهما الرب، العبد هو الرب والرب هو العبد، إن قلت: رب كيف يكلف، وإن قلت: عبد فهو ميت، فالعبد هو الرب والرب هو العبد، ويقول: رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك.

والعبد فقط هو كثرة الوهم، يقول: هذا توهم التعبد لله ويقول عن الله: الله العلي الأعلى، يقول: علي على من؟ العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وما هو إلا هو، نسأل الله العافية، ويقول: سر حيث شئت فإن الله ثم وقل ما شئت فالواسع الله أي: فكل شيء تراه في هذا الوجود هو الله، نعوذ بالله، ويقول هؤلاء الملاحدة: هذا التعدد وهم، وأنت لا تفهم مذهب الاتحادية إلا إذا خرقت العقل، وخرقت الشرع، وخرقت الحس، يعني: ألغ هذه، ألغ عقلك حتى تكون مجنوناً، وألغ الشرع حتى تفهم الأبيات ثم تفهم مذهب الاتحادية، نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله من زيغ القلوب.

والعامة على الفطرة وفي عافية من هذه الأشياء، لكن لما ذكر محمد بن خفيف رحمه الله ذلك، لابد أن نبين لطلبة العلم، وهذا موجود الآن، والاتحادية موجودون الآن، ولهم من يدافع عنهم، وابن عربي له كتب، له: الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، وله أيضاً معارضة في القرآن في قصصه، يأتي بقصة قوم نوح ويعارضها ويفسرها بتفسيرات وإشارات ورموز إلحادية، ثم يأتي بقصة هود وهكذا، نسأل الله السلامة والعافية.

فقوله: [ومن زعم أنه قد خرج من رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية].

يعني: سقطت عنه التكاليف، فليس عليه تكاليف ولا هو برقيق لله، إذاً: رقيق للشيطان، خرج من رق العبودية لله فيكون عبداً للشيطان، ولابد.

خرج إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية، فلا يتعبد لله بأي عبودية: لا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا اجتناب محرمات.

وقوله: [والخروج إلى أحكام الأحدية المبدئية].

أي: الاتحاد بالله نعوذ بالله.

قوله: [لعلائق الآخرية فهو كافر لا محالة، إلا من اعتراه علة أو رأفة فصار معتوهاً أو مجنوناً أو مبرسماً].

هذا معذور، رفع عنه القلم، معتوه يعني: نقص في العقل، أو مجنون معروف، أو مبرسم: يهذي هذياناً لخلل في رأسه.

قال: [وقد اختلط عقله أو لحقه غشية ارتفع عنه بها أحكام العقل، وذهب عنه التمييز والمعرفة، فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة].

هذا مرفوع عنه التكاليف.

فإن قيل: ما حكم المدافع عن مثل هؤلاء الاتحادية؟ الجواب: إذا كان المدافع عنه يعلم حقيقة حاله فهو كافر مثله نعوذ بالله، ومن دافع عن الكفرة فهو كافر مثلهم، نسأل الله العافية.

وإن قيل: ما الفرق بين الحلولية والاتحادية؟ فالجواب: الفرق واضح، الحلولية: شيء حل محل الآخر، كالماء حل في الكوب، والاتحادية يقولون: الوجود شيء واحد، ولهذا يقال عن الاتحادية إنها لم تتعدد، ولم تقل باثنين أحدهما حل في الآخر، لا اثنينية ولا تعددية، الوجود واحد، وأما الحلولية تقول: اثنان حل أحدهما في الآخر، كالماء في الكوب، والاتحادية أشد كفراً من الحلولية، وكلهم كفرة وكلهم من الصوفية، وأصلهم منبثق عن مذهب الجهمية الذين أنكروا الأسماء والصفات، وأتوا بالقول بالحلول، ثم القول بالاتحاد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن زعم الإشراف على الخلق: يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله -بغير الوحي المنزل من قول الرسول صلى الله عليه وسلم- فهو خارج عن الملة].

من زعم أنه يشرف على الخلق ويعلم أحوال الناس، بدون الوحي وبدون شيء أخبر به النبي فهذا كافر؛ لأن هذا من دعوى علم الغيب، والذي يزعم أنه يشرف على الناس، وأنه يعلم أحوالهم، ويعلم المؤمن وغير المؤمن، ويعرف الصحيح من

<<  <  ج: ص:  >  >>