للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إرسال الرسل لتقرير توحيد الربوبية ودعاء المشركين إلى توحيد العبادة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالرسل عليهم السلام بعثوا لتقرير الأول، ودعاء المشركين إلى الثاني، مثل قولهم في خطاب المشركين: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم:١٠].

وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [فاطر:٣] ونهيهم عن شرك العبادة، ولذا قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦] أي: قائلين لأممهم: أن اعبدوا الله، فأفاد بقوله: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل:٣٦] أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم وأنه رب السموات والأرض، فإنهم مقرون بهذا، ولهذا لم ترد الآيات فيه في الغالب إلا بصيغة التقرير، نحو: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:٣].

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:١٧].

{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:١٠].

{أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:١٤].

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١]، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:٤٠] استفهام تقرير لهم؛ لأنهم مقرون به].

قوله: (فالرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا لتقرير الأول) أي: توحيد الربوبية، وهو القسم الأول، ودعاء المشركين إلى الثاني الذي هو توحيد العبادة، فالرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا لتقرير الأول؛ لأنهم يقرون الناس على توحيدهم -في الربوبية، وأن هذا التوحيد حق، لذا يجب على كل إنسان أن يوحد الله في ربوبيته وأسمائه وصفاته، وفي ألوهيته وعبادته، فالرسل عليهم الصلاة والسلام قرروا الناس على توحيدهم للربوبية، وقالوا: نقركم على توحيدكم لله في الربوبية، لكن بقي عليكم أن تقروا بتوحيد الألوهية والعبادة لله، فلا يكفي في الدخول في الإسلام حتى توحدوا الله في الألوهية، ولهذا دعي المشركين إلى الثاني الذي هو توحيد الألوهية، ومثل المؤلف بقوله تعالى في خطاب المشركين: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم:١٠].

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [فاطر:٣] أي: أنتم ليس عندكم شك بأن الله فاطر السموات والأرض، إذاً: أقروا بتوحيد الإلهية والعبادة، وأفردوه بالعبادة فهو يدعوكم سبحانه ليغفر لكم من ذنوبكم: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:٣] فهم معترفون بذلك، وقد اتبع الله بعد ذلك بتوحيد الإلهية فقال سبحانه: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [فاطر:٣] أي: لا معبود بحق إلا هو، فاعبدوه ما دمتم تعترفون أنه ليس هناك خالق غير الله، وأفردوه بالعبادة، وانتهوا عن شرك العبادة، فإن الرسل قد بعثوا بالنهي عن الشرك في العبادة، والعبادة كما سبق: جميع ما جاء في الشرع من الأوامر والنواهي، فيفعل المسلم الأوامر ويترك النواهي تعبداً لله عز وجل، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦] فقد بين الله سبحانه وتعالى أنه بعث في كل أمة رسولاً، يأمر الناس بأن يعبدوه ويوحدوه ويخلصوا له العبادة ويجتنبوا الطاغوت، والطاغوت: هو كل ما عبد من دون الله.

وطاغوت على وزن: (فعلوت) صيغة مبالغة، فكل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو مطاع أو معبود وهو راض بذلك فهو طاغوت، فالذي يدعو الناس إلى عبادة نفسه طاغوت؛ لأنه تجاوز حده، وحده: أن يكون عبداً لله، فإذا دعا الناس إلى عبادته يكون قد شابه فرعون الذي ادعى الربوبية حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤].

{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] فهذا طاغوت، بل رءوس الكفر طواغيت، فإبليس طاغوت دعا إلى الشرك، ومن دعا إلى عبادة نفسه فهو طاغوت، ومن رضي أن يعبده الناس فهو طاغوت تجاوز حده، ومن حكم بغير ما أنزل الله فهو طاغوت، فحد العبد: أن يكون عبداً لله ذليلاً خاضعاً ممتثلاً لأمر الله مجتنباً لنهيه، فإذا تجاوز الإنسان حده صار طاغوتاً، أي: أن حدك أن تعبد الله، وأن توحد الله، وأن تدعو إلى عبادة الله، فإذا خرج الإنسان عن هذا الحد وتمرد على الله وعلى رسله وأنبيائه ودعا الناس إلى عبادة نفسه أو رضي بأن يعبد من دون الله أو أمر بمعصية الله، أو حكم بغير ما أنزل الله، أو دعا الناس إلى الشرك والوثنية صار طاغوتاً؛ لأنه تجاوز حده؛ لأن حد الإنسان أن يكون عبداً لله، فإذا تجاوز هذا الحد صار طاغوتاً، فالرسل عليهم الصلاة والسلام بعثهم الله في كل أمة، يأمرون الناس بعبادة الله واجتناب الطاغوت.

وقوله: (أي قائلين لأممهم أن اعبدوا الله) أي: تقدير {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:٣٦] قائلين لأممهم: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦].

وقوله: (فأفاد بقوله: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل:٣٦] أي: أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد العبادة).

إذاً: الرسل أرسلت لتطلب من الناس أن يوحدوا الله في العبادة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة:١١٧] لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم، وأنه رب السموات والأرض، فإنهم مقرون بذلك، وإنما بعثوا ليأمروا الناس بعبادة من وحده، وخلاص العبادة له، وطلب توحيد العبادة له، فهم يطلبون من الناس أن يوحدوا الله في العبادة والألوهية، يطلبون من الناس أن يوحدوا الله بأفعالهم ودعائهم وذبحهم ونذرهم وصلاتهم وحجهم، وأن يصرفوها لله لا لغيره، هذا هو الذي بعثت به الرسل، ولم تبعث الرسل لتقول للناس: نعرفكم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت؛ لأنهم مقرون بهذا.

وقوله رحمه الله: (ولهذا لم ترد الآيات فيه في الغالب إلا بصيغة التقرير)، أي: أن الآيات لم ترد في توحيد الربوبية إلا بصيغة التقرير، فتقرر الناس على ما يعتقدون، ومثل المؤلف رحمه الله بقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ} [فاطر:٣] (هل) استفهام تقرير.

أي: أنتم تقرون بأنه ليس هناك خالق غير الله، فكما أنكم تقولون: لا خالق إلا الله.

فيجب عليكم أن تعتقدوا أنه لا إله غير الله، ولا معبود بحق غيره، فهذا استفهام تقرير.

ومثَّل بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:١٧] وهنا بصيغة التقرير، حيث يخاطب الله المشركين فيقول: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:١٧] أي: ألا تعتبرون أنكم تعتقدون أن الله هو الخالق والأصنام ليست خالقة، فتسوون بين الخالق وبين ما لا يخلق: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:١٧] فهل يستويان؟ لا يستويان، فالذي يخلق هو الذي يستحق العبادة، والذي لا يخلق لا يستحق العبادة.

إذاً: هذا احتجاج يحتج الله به عليهم، فكما أنكم تعتقدون بأن الله هو الخالق اعبدوه، ولا تعبدوا هذا المخلوق الذي لا يستحق العبادة، ولا تسوون بين الخالق وبين غير الخالق: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:١٧].

ومثَّل بقوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:١٠] أي: هم يقولون: ليس هناك شك بأن الله فاطر السموات والأرض، إذاً: اعبدوا الله ما دمتم أنكم لا تشكون بأن الله هو فاطر السموات والأرض، فهو المستحق للعبادة؛ لأن فاطر السموات والأرض هو الذي يستحق العبادة.

ومثل بقوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:١٤] هذه صيغة تقرير، إذاً: اعبدوه وحده.

ومثَّل بقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١] أي: هذا خلق الله، فهو الذي خلق السموات والأرضين والملائكة والبشر، والنبات والأشجار والأحجار والماء، فكلها خلق الله، وكذلك النجوم والكواكب، فقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١] أي: هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله أروني ماذا خلقوا؟!

الجواب

لا يخلقون، إذاً: لا يستحقون العبادة.

وفي الآية التي بعدها: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:٤٠] يعني: هؤلاء المعبودون من الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار أروني ماذا خلقوا من الأرض، هل خلقوا شيئاً من الأرض؟! الجواب: لا، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:٤٠] أي: هل هم لله شركاء في السموات؟! الجواب: لا، إذاً: لا يستحقون العبادة.

وقوله رحمه الله: (استفهام تقرير لهم؛ لأنهم به مقرون)، أي: حتى يلزمهم بتوحيد العبادة والألوهية، يلزمهم بما يقرون به على الالتزام بما ينكرونه، وهو توحيد العبادة.

<<  <  ج: ص:  >  >>