للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تمكين الله لإبليس وجنوده من بني آدم ابتلاء وامتحاناً

ثم يقول المؤلف: والتحقيق أن لإبليس وجنوده من الجن والإنس أعظم العناية في إضلال العباد، وقد مكن الله إبليس من الدخول في الأبدان والوسوسة في الصدور، والتقام القلب بخرطومه، فكذلك يدخل أجواف الأصنام، ويلقي الكلام في أسماع الأقوام، ومثله يصنعه في أهل عقائد القبوريين.

أي: إن الله تعالى سلط إبليس وجنوده على بني آدم، ومن ذلك أن الله سلطهم على أبدان بني آدم فيدخل في البدن ويوسوس، كما قال تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:٤ - ٦].

فهو يوسوس في الصدور، وفي الحديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) وقد مكنه الله من الدخول في الأبدان والوسوسة في الصدور، والتقام القلب بخرطومه، وهذا ابتلاء وامتحان لهم، فيوسوس لهم ويحسن لهم الباطل، ويزين لهم أنهم استفادوا وانتفعوا من أصحاب القبور، كما أن الشيطان يدخل أجواف الأصنام ويلقي الكلام في أسماع الأقوام، فيتكلم معهم، ويقضي لهم الحوائج، ومثله يصنعه في القبوريين.

قال: فإن الله تعالى قد أذن للشيطان أن يجلب بخيله ورجله على بني آدم.

يشير المؤلف بكلامه هذا إلى قول الله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:٦٤]، وهذا ابتلاء وامتحان، أي: تمكين الله للشيطان ابتلاء وامتحان لبني آدم، فيجلب عليهم بخيله ورجله، ويوسوس لهم، ويشاركهم في الأموال والأولاد، وثبت في الأحاديث أن الشيطان يسترق السمع في الأمر الذي يحدثه الله، فيلقيه إلى الكهان، وذلك بإن الشياطين يركب بعضهم بعضاً حتى تسترق السمع، وأن الله تعالى إذا تكلم بالوحي سمعه أهل السماء السابعة، ثم يتخابر به أهل السماء السادسة، ثم الخامسة، حتى يصل إلى أهل السماء الدنيا، وحتى يتكلم به الملائكة في السحاب، والشياطين يركب بعضهم بعضاً فيتكلم الملائكة الذين في السماء الدنيا بالأمر الذي قضاه الله، فيسمعه الشيطان فيلقيه إلى من تحته، ويلقيه الآخر إلى من تحته حتى يصل إلى الشيطان الذي في الأرض فيلقيه في أذن الكاهن، كما جاء في الحديث: (يقرقرها في أذن وليه قر الدجاجة)، ثم إذا وصلت إلى أذن الكاهن كذب معها مائة كذبة، ثم يخبر الناس بهذا الكذب، واحدة سمعت من السماء والباقي كذب، فيصدق الناس الكهان بتلك الكلمات التي سمعت من السماء، والشهب تلاحقهم، وأحياناً تحرق أجسام الشياطين قبل أن يلقي الكلمة في أذن الكاهن، وأحياناً يلقيها ثم يأتيه الشهاب.

والشياطين يولد لهم في الساعة ألوف مؤلفة، فهؤلاء يحرقهم الله وهؤلاء يولدون، وكل إنسان معه قرين، كما في الحديث، وهذا هو المعنى الذي أشار إليه المؤلف: من أنه يلقيه الشيطان إلى الكهان، والكهان هم الذين يخبرون بالمغيبات، ويزيدون فيها، ثم الشياطين تزيد عليها مائة كذبة، ويقصد شياطين الجن والإنس من سدنة القبور وغيرهم، فيقولون: إن الولي فعل وفعل، ويرغبون الأغمار من الناس في التقرب إليهم، وإذا كان الولي من الأحياء فقد يكون كاهناً؛ لأن الشياطين تلقي عليهم هذه الكلمات ويكذبون معها، فيتحدث شياطين الجن وشياطين الإنس: أن الولي فعل كذا وكذا وأخبر بكذا، حتى يعبده الناس من دون الله.

يقول المؤلف: وترى العامة ملوك الأقطار وولاة الأمصار معززين لذلك، ويولون العمال لقبض النذور.

يعني: أن العوام يرون بعض الملوك المشركين وبعض علماء الشرك وولاة الأمصار يعززون أصحاب القبور، ويذبحون لهم وينذرون لهم، ويؤيدونهم على النذور، أي: يقرونهم على النذور التي ينذرونها، وإن كانوا لا يذبحون لهم ولا ينذرون، لكنهم يقرون من ينذر لهم، وتجد بعض علماء الشرك يأتي إلى صاحب القبر ويشجع الناس قائلاً: إن هذا ينفع ويشفع لكم عند الله، وهو من الصالحين، فيغري الناس بالشرك، فيغتر العامة ويظنون أن هذا حق، وتجد بعض الملوك يولي العمال لقبض النذور؛ لأنهم يستفيدون من هذه الأموال وينفقونها في مصالحهم، فلهذا يشجعون هؤلاء المشركين على النذور، وقد يتولاها كما يقول المؤلف: من يحسنون الظن به من عالم أو قاض أو مفت أو شيخ صوفي.

وقد يكون هذا العالم من علماء الشرك، وقاض من قضاة الشرك، ومفت من مفتي الشرك، وشيخ من الصوفية الضلال، فيتم التدليس لإبليس والتلبيس على الناس؛ لأن هذا ممن يفتون بالشرك، وهذا قاضٍ من قضاة الشرك، وهذا عالم من علماء الشرك، وهذا شيخ صوفي، وهذا ملك يولي العمال لقبض النذور، فيغتر العامة ويظنون أن هذا هو الحق، قال المؤلف: فيتم التدليس لإبليس، وتقر عينه بهذا التلبيس، نسأل الله السلامة والعافية، وفق الله الجميع لرضاه، وصلى على محمد وآله.

<<  <  ج: ص:  >  >>