للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قلت: هذا أمر عم البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد، وطبق الأرض شرقاً وغرباً، ويمناً وشاماً، وجنوباً وعدناً، بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها، وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور، ويسرجونها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويلبسونها الثياب، ويصنعون كل أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها من التعظيم والخضوع والخشوع والتذلل والافتقار إليها، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلوا عن قبر أو قريب منه، أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة، يصنعون فيه ما ذكر، أو بعض ما ذكر، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا.

قلت: إن أردت الإنصاف، وتركت متابعة الأسلاف، وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها، صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل قريته وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولة أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه ويعظمونه، ويرحلون به إلى محل قبره، ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفاً على قبره، فينشأ وقد قر في قلبه عظمة ما يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده من يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير.

بل ترى ممن يتسم بالعلم، ويدعي الفضل، وينتصب للقضاء أو الفتيا أو التدريس أو الولاية أو المعرفة أو الإمارة والحكومة، معظماً لما يعظمونه، مكرماً لما يكرمونه، قابضاً للنذور، آكلاً ما ينحر على القبور، فيظن العامة أن هذا دين الإسلام، وأنه رأس الدين والسنام، ولا يخفى على أحد يتأهل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر: أن سكوت العالِم أو العالَم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر].

لا يزال المؤلف رحمه الله يذكر سلسلة من الشبهات والأسئلة التي يوردها بعض عباد القبور؛ ليلبسوا بها على الناس، ثم يجيب عنها.

يقول المؤلف رحمه الله: فإن قلت: هذا أمر عم البلاد، يعني: وجود القبور والمشاهد، ومن يطوفون حولها وينذرون لها ويذبحون عندها ويعظمونها، واجتمع عليه سكان الأغوار والأنجاد.

يعني: اجتمع عليه سكان المرتفعات والمنخفضات، فالأغوار جمع غور، وهو: المنخفض من الأرض، والأنجاد جمع نجد، وهو: ما ارتفع من الأرض، يعني: اجتمع عليه الناس كلهم في البوادي وفي الأودية، وفوق الجبال، واستمروا على هذا الأمر، واجتمعوا عليه، ولهذا قال: طبق الأرض شرقاً وغرباً، ويمناً وشاماً وجنوباً وعدناً.

أي: كل هذه المواطن موجودة فيها القبور في الشرق والغرب واليمين والشمال والجنوب والعدن، بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها وينذرون لها، ومعنى: ينذر لها النذور، أي: يقولون لصاحب القبر: إن شفى الله مريضي فلك علي كذا وكذا، أي: لصاحب القبر، وقد يكون النذر من الذبائح أو الحبوب أو الثمار أو النقود، وكذلك يدعونها ويهتفون باسمها، ولهذا قال المؤلف: لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور ويسرجونها.

ومعنى يسرجونها: يضعون عليها السرج والأنوار، وهذا من وسائل الشرك -أي: وضع القباب على القبور، وإسراجها بالسرج- والآن تسرج بالكهرباء، وهذا تعظيم لها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، وهذا دعوة للشرك، وهذه كلها من وسائله، وكذلك الكتابة عليها، وإلباسها الثياب، بل يصنعون كل أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها من التعظيم والخشوع والخضوع والتذلل والافتقار إليها.

يقول المؤلف: حتى المساجد ما سلمت من هذا، أي: حتى مساجد المسلمين ما تجد مسجداً إلا وفيه قبر، فإن لم يكن داخل المسجد فهو خارجه، وهذا موجود إلى الآن مثلما قال المؤلف: بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر، أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة، فيصنعون فيها ما ذكر أو بعض ما ذكر.

وهذا موجود حتى الآن، فأي بلد تأتيه -ما عدا بلادنا هذه- لا تجد في الغالب مسجداً إلا وفيه قبر، وقليل من المساجد التي تسلم من القبور، فإما أن تجد القبر داخل المسجد أو خارجه قريباً منه.

يقول المؤلف: ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة.

يقول: كيف تقول: إن هذا منكر، وهو أمر عم البلاد وطم، وبلغ من الشناعة ما بلغ، فكأنه يقول: الناس لا تتحمل عقولهم هذا، ولا يوافقونك على أن هذا منكر، وأنه بلغ من الشناعة أن يكون من المنكرات الكفرية، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا.

يقول: لو كان ما تقولون صحيحاً من أن الطواف بأصحاب القبور والذبح لها والنذر لها كفر؛ لما سكت عليه العلماء، وكيف يسكت العلماء عن مثل هذا؟

و

الجواب

قال المؤلف رحمه الله: قلت: هذا الجواب إن أردت الإنصاف، وتركت متابعة الأسلاف، وعرفت بأن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم، تعلم أن هذه الأمور نشأ عليها الناس وهي شركيات.

يقول المؤلف: عليك أن تتجرد من التقليد والتبعية للآباء والأجداد في الباطل، فهذه طريقة المشركين، حيث قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢]، فتجرد من التقليد واتباع الآباء والأجداد والأسلاف في الباطل، واطلب الحق، فالحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه الناس وتواطئوا عليه، فإن النصوص كلها تدل على قبحه وشناعته وكفر ما فعل.

فيقول المؤلف: إذا أردت الإنصاف اترك متابعة الآباء والأجداد والأسلاف، وأهل البلد في الباطل، واطلب الحق بدليله، لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل، وقبيلة بعد قبيلة.

(فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها مثل الطواف حول القبور، والذبح لها، والنذر لها، وتعظيمها، ونسعى في هدم منارها، صادرة عن العامة).

يعني هذه صدرت عن العوام وما صدرت عن العلماء، فهل وجدت عالماً يطوف حول القبور؟ أو يذبح لها؟ أو ينذر لها؟ فمن الذي يفعل هذا؟ الذي يفعل هذا هم العوام، والعوام جهال، وفعلهم ليس بحجة.

فهم نشأوا على تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل).

فيتابعون الآباء ولا يفرقون بين الحق وبين المبطل.

(ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل قريته، وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولة أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون له، ويعظمونه ويرحلون به إلى محل قبره، ويلطخونه بترابه ويجعلونه طائفاً على قبره، فيفعل مثل فعلهم، فينشأ وقد قر في قلبه عظمة ما يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده من يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير على هذه الأفعال الشركية.

بل ترى من يتسم بالعلم، ويدعي الفضيلة وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس، أو الولاية، أو المعرفة، أو الإمارة والحكومة معظماً لما يعظمونه).

وهذه من المصائب أن يكون من العلماء هم من يشجع العامة على الشرك ويحثونهم عليه، حتى إن القبوريين عندهم بعض العلم وعندهم بعض الشبه وهم قبوريون، وهؤلاء لا عبرة بهم، فالعبرة بعلماء الحق، وعلماء الشريعة، وعلماء الكتاب والسنة، أهل الاستقامة والعلم والعمل، وأما المنحرفون فلا، فإن اليهود فيهم علماء لكنهم أهل ضلال، والنصارى فيهم علماء لكنهم أهل ضلال، وكذلك هذه الأمة فيها علماء ضلال.

والعلماء قسمان: علماء دنيا وعلماء آخرة.

فعلماء الدنيا هم علماء الضلال، فلا عبرة بهم، ولهذا قال: إن هناك من العلماء من يدعي الفضل وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس والولاية أو الإمارة والحكومة، وهم يعظمون ما يعظمه العامة ويكرمون ما يكرمونه، وهذا تشجيع لهم على الشرك، وإقرار لهم عليه.

يقول: (أقرهم على الشرك، آكلاً ما ينحر على القبور).

الذي ينحر القبور يؤكل وهو ميتة، وذبيحة شركية، فكيف يؤكل وهو لا يحل، فالذبيحة التي تذبح لصاحب القبر هذه ميتة نجسة، ومع ذلك يأكلها بعض من ينتسب للعلم من علماء الضلال.

(فيظن العامة أن هذا دين الإسلام) وأنه رأس الدين والسنام، ولا يخفى على أحد يتأهل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر؛ أن سكوت العالم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر).

إذا سكت الشخص أو سكت العالم فسكوتهم لا يدل على جواز ذلك المنكر، وبين المؤلف رحمه الله أن الإنسان قد يسكت لأنه عاجز عن الإنكار، والإنكار يكون باليد ثم باللسان ثم بالقلب، وقد يكون هذا الذي سكت من العلماء ما عنده استطاعة لتغييره؛ لأنه يخشى أن يصيبه ضرر في دينه أو بدنه أو ماله، فيكون معذوراً، فينكر بقلبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>