للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شعب الإيمان ودلائلها من النصوص]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: فإن قال لك قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟ قيل له: لم تُسم لنا مجموعة فنسميها، غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه، وإن لم تذكر لنا في حديث واحد، ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة فيها، ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان وكذلك قوله في حديث آخر: (الحياء شعبة من الإيمان)، وفي الثالث: (الغيرة من الإيمان)، وفي الرابع: (البذاذة من الإيمان)، وفي الخامس: (حسن العهد من الإيمان)؟! فكل هذا من فروع الإيمان].

هذا اعتراض من المؤلف رحمه الله -وهو أبو عبيد القاسم بن سلام - حيث قال -يعني نفسه-: فإن قال لك قائل واعترض عليك معترض: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟)، يشير إلى حديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فهذا الحديث فيه بيان أن الإيمان شعب متعددة وأنه بضع وسبعون، والبضع: من ثلاثة إلى تسعة، ولهذا فإن الإمام البيهقي رحمه الله جمع في كتابه الذي سماه (شعب الإيمان) تسعاً وسبعين شعبة.

وقول المؤلف رحمه الله: (فما هذا الأجزاء الثلاثة وسبعون) الذي يظهر لي أنه ليس في الحديث تخصيص بأنها ثلاث وسبعون، وإنما (بضع وسبعون)، والبضع من ثلاثة إلى تسعة، فلو قال: فما هذه الأجزاء البضع والسبعون) لكان أفضل؛ لأن الحديث لم يحدد ثلاثاً، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بضع وسبعون) في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: (بضع وستون).

يقول رحمه الله تعالى مجيباً: [قيل: لم تسم لنا مجموعة فنسميها]، أي: هذه الأجزاء البضع والسبعون ما سماها لنا الشارع، وقال الجزء الأول كذا والجزء الثاني كذا والثالث كذا فما سماها في مكان واحد وفي حديث واحد.

[غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه]، أي: غير أننا نجزم بأنها هذه الشعب كلها من طاعة الله وتقواه وإن لم تذكر لنا في حديث واحد، لكن تؤخذ من مجموع النصوص من الكتاب والسنة، ولهذا قال: [ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة فيها] يعني النصوص، فلو تفقدت لوجدت متفرقة فيها، وأقول: ليس ذلك خاصاً بالآثار، بل كذلك نصوص القرآن الكريم، فلو بحثت عنها وتفقدتها في نصوص الكتاب والسنة لوجدت هذه البضع والسبعين، ثم مثل رحمه الله فقال: [ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان؟!]، ونص الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

فمثل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأعلاها ولأدناها، وقال: (أعلاها قول لا إله إلا الله) فكلمة التوحيد هي أعلاها، وهي من قول اللسان مع الاعتقاد في القلب، وأدناها أماطة الأذى عن الطريق، وهذا عمل بدني، (والحياء شعبة من الإيمان) وهذا عمل قلبي، فمثل للشعبة القولية، ومثل للشعبة العملية، ومثل للشعبة القلبية، فدل على أن شعب الإيمان تكون من أعمال القلوب، ومن أعمال البدن، ومن أقوال اللسان، وكلها داخله في مسمى الإيمان، وهذا يدل على أن مسمى الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح.

يقول: [ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان، وقوله في حديث آخر: (الحياء شعبة من الإيمان)] وهو في نفس الحديث، وهذا الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ (الإيمان بضع وسبعون) في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: (بضع وستون شعبة، فأعلاها -وفي لفظ: فأفضلها -قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

قال: [وفي الثالث: (الغيرة من الإيمان)] يعني: في حديث آخر: (الغيرة من الإيمان).

قال المحقق: رواه البزار وابن بطة في الإبانة عن أبي سعيد وصله بسند فيه مجهول الحال، لكن جاء في الحديث الآخر في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني)، فالغيرة صفة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته لا يماثل فيها أحداً من المخلوقين، وسبب الحديث أن سعد بن معاذ قال: (يا رسول الله! لو رأيت أحداً مع أهلي لضربته بالسيف غير مصفح.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني)، فوصف الله بالغيرة.

قال: [وفي الرابع] يعني: في حديث رابع: [(البذاذة من الإيمان)] فجعلها من الإيمان، إلا أن الأفضل للمسلم إذا أنعم الله عليه بنعمة أن يظهر هذه النعمة عليه، كما في الحديث: (إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)، لكن إذا ترك الثياب الجميلة في بعض الأحيان كسراً للنفس وتواضعاً فهذا مطلوب، وهذا هو معنى البذاذة، فالبذاذة: هي ترك الثياب الجميلة في بعض الأحيان تواضعاً وكسراً للنفس وإبعاداً لها عن العجب.

قال: [وفي الخامس] يعني: في الحديث الخامس: [(حسن العهد من الإيمان)، فكل هذه من فروع الإيمان] ولو تتبعت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تتبعها البيهقي رحمه الله لوجدت هذه الشعب، فكل الشعب التي وردت في هذه النصوص من فروع الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه حديث عمار: (ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار والإنصاف من نفسك، وبذل السلام على العالم)].

يقول المحقق: روي مرفوعاً وموقوفاً، والراجح أنه موقوف، على أن في سنده من كان اختلط، ولكن فات على المحقق -وهو الشيخ ناصر الدين الألباني - أن أثر عمار هذا رواه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به، قال: (صح عن عمار أنه قال: ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم) ومن المعلوم أن البخاري إذا رواه معلقاً مجزوماً به فهو صحيح إلى من علقه، والإنفاق من الإقتار يعني: أن ينفق الإنسان ويتصدق ويحسن ولو كان ماله قليلاً، والإقتار: هو الضيق والفقر، فإذا كان عنده درهمان ينفق درهماً ويبقى لأهله درهماً، فهذا هو الإنفاق مع الإقتار، وقد يسبق هذا الدرهم الآلاف، ولهذا جاء في الحديث الآخر: (سبق درهم ألف درهم)، فكيف ذلك؟! الجواب أن هذا عنده درهمان فتصدق بدرهم وأبقى لأهله درهماً، وآخر عنده ملايين وأنفق من هذه الملايين ألفاً، فيكون ذاك أنفق نصف ماله وهذا أنفق ألفاً من ملايين، فيسبق درهم ألف درهم.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا حثهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة يحاملون، أي: يعمل الواحد منهم فيكون حمالاً يحمل على ظهره، فإذا أعطي الأجرة درهمين تصدق بدرهم وأبقى لأهله درهماً رضي الله عنهم.

والأمر الثاني: الإنصاف من نفسك، فتقول الحق ولو كان على نفسك، وهذا لا يستطيعه إلا أهل العدل، وهو من كمال الإيمان.

والثالث: بذل السلام للعالم، أي: للناس جميعاً، فبعض الناس لا يسلم إلا على من يعرف، والذي لا يعرفه لا يسلم عليه، وهذا غلط، فالسنة إفشاء السلام على كل من لقيت، إلا إذا عرفت أنه كافر فلا تبدأه بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وإذا سلم عليك وهو غير مسلم فرد عليه وقل له: وعليكم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)، فبذل السلام للعالم جاء في حديثين في سندهما بعض الشيء، فذاك الأول، والثاني: (في آخر الزمان يكون السلام للمعرفة)، فبعض الناس يسلم على من يعرف، أما الذي لا يعرف فلا يسلم عليه، وهذا غلط وإن كان ابتداء السلام سنة، لكنه من أسباب المحبة، وفي الحديث: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

<<  <  ج: ص:  >  >>