للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم]

قال: [حدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا سفيان - وهو ابن عيينة - عن منصور بن المعتمر عن مجاهد بن جبر المكي عن أبي معمر -وهو عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي)].

ومعنى (ثقفي) أي: من ثقيف، وثقيف قبيلة في الطائف بجوار مكة، أما قريش فهي أصل مكة.

قال: [(قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم)].

أي: من علامات المنافقين أنهم لا يكادون يفقهون نصاً؛ لأن عندهم عمى في بصيرتهم، فقد طمس الله على عيونهم، وغشى الران على قلوبهم، ومن علاماتهم أيضاً: كثير شحم بطونهم، وربنا حكى عنهم أنهم خشب مسندة.

وقد نقل الإمام النووي عن القاضي عياض رحمه الله أنه قال: وهذا فيه تنبيه على أن الفطنة قلما تكون مع السمن، وهذا يعني أن الواحد يحرص أن يتخفف في طعامه؛ لأن الإنسان إذا أكل كثيراً نام كثيراً، وبالتالي ضاع منه العلم الكثير، والعلم مرتبط بالفقر والحاجة.

ولذلك كان الإمام الشافعي يقول: لا يطلب العلم من ملك زاده، ولا يطلبه إلا من أحرق البن قلبه.

قال الخطيب البغدادي: (البن): هو طعام كانت تصنعه العرب من كيت وكيت.

والذي فهمته من تفسير (البن) أنه خبز يابس يبل بماء ثم يؤكل، بعض النساخ كتب (اللبن)، وأنتم تعلمون أن اللبن هو شراب الفطرة، وهو شراب مغذٍ جداً، فلا يستقيم أبداً أن يقول: لا يطلب العلم إلا من أحرق اللبن قلبه؛ لأن اللبن لا يحرق القلب.

[(فقال أحد هؤلاء الثلاثة النفر: أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا)] يعني: الذي يسمع مع الظاهر يسمع مع الإخفاء، [فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:٢٢]) إلى آخر الآيات].

أي: أنزل الله عز وجل تكذيب هؤلاء؛ لأن قولهم يدور بين التردد والشك في صفات الله عز وجل، وهذا على خلاف المؤمنون الذين يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يسعهم غيره: أن الله تعالى منزه عن كل نقص، ومتصف بكل كمال.

إن من أعبد العبادات أن تعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته، فهؤلاء خفيت عليهم ذات الله عز وجل كما خفيت عليهم صفات الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لو كانوا يعلمون ذات الإله حقاً؛ لعلموا أن هذه الذات متصفة بصفات الكمال، فهو يسمع ويرى.

فأحد هؤلاء الثلاثة كان عنده تردد وشك في وصف الله تبارك وتعالى بصفات الكمال والجلال، وبعضهم كأنه أيقن أن الله تعالى لا يسمع كلامهم، ولا يرى مكانهم.

قال: [وحدثني أبو بكر بن خلاد الباهلي حدثنا يحيى بن سعيد - وهو القطان - قال: حدثنا سفيان - وهو الثوري - حدثني سليمان - وهو سليمان بن مهران الأعمش، وإذا روى الثوري عن سليمان فاعلم أنه سليمان بن مهران الأعمش، وفي الغالب لا يقال الأعمش، وإنما يقال: سليمان، فهو الأعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة الكوفي عن عبد الله بن مسعود].

ووهب بن ربيعة مقبول، ولم يوثقه غير ابن حبان، وتوثيق ابن حبان محل نظر عند أهل العلم، والمقبول إذا توبع كان حديثه حسناً، وإذا لم يتابع فحديثه ضعيف، لكنه هنا متابع، ولذلك يروي مسلم هذا الحديث بإسناد آخر فقال: [وحدثنا يحيى قال: حدثنا سفيان حدثني منصور عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بنحوه].

إذاً: فـ وهب بن ربيعة تابعه أبو معمر، وهما يرويان عن عبد الله بن مسعود في الإسناد الأول والإسناد الثاني، فـ أبو معمر في نفس طبقة وهب بن ربيعة، وأبو معمر متابع لـ وهب بن ربيعة، فكلاهما يروي عن ابن مسعود، وهذه متابعة تامة، والمتابعة التامة هي اشتراك راويين في شيخ واحد.