للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين الحد والتعزير]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

الباب الثاني من كتاب الحدود: [باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود] أي: باب وجوب قطع السارق الشريف كما يجب قطع السارق الوضيع، فكلاهما في الحكم سواء إذا بلغ الحد السلطان.

قال: [والنهي عن الشفاعة في الحدود].

وهذا فارق جوهري بين الحد والتعزير: فهما يشتركان في جواز الشفاعة ما لم يصل الحد إلى السلطان، فإذا وصل الحد إلى السلطان فإنه يحرم على كل أحد أن يشفع لدى السلطان في زوال هذا الحد أو عدم إقامته أو تخفيفه.

هذا فارق بين الحد والتعزير.

فارق ثان: أن الحد مقدر، بخلاف التعزير؛ فإنه يرجع إلى اجتهاد المعزر، فإذا كان الحد ثمانين جلدة فلا يصح أن يكون أقل من ذلك ولا أكثر، إلا إن مات المحدود في أثناء قيام الحد عليه.

مثال ذلك: لو أن الحد مائة جلدة، فمات المحدود في السبعين أو الستين أو العشرة الأولى؛ فيحرم ضربه بعد ذلك، ويحرم جلده؛ لأنه لا عبرة ولا فائدة من ضرب الميت، بل تثبت له حرمة الأموات بعدم المساس أو الضرب أو الكسر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كسر عظم الميت ككسره حياً) فالميت له حرمة كما أن الحي له حرمة.

فالحدود مقدرة، فإذا أقمناها فيجب إقامتها بغير زيادة ولا نقصان خلافاً للتعزير، كما أن الحد منصوص عليه وهو نفس المعنى، أما التعزير فيرجع إلى اجتهاد المعزر.

ويحرم على السلطان أو من ينوب عنه أن يتنازل عن إقامة الحد، أو أن يعفو عنه؛ خلافاً للتعزير، فإن التعزير يراعى فيه أصحاب الهيئات وأصحاب المروءات، كما يراعى فيه الوسيلة الأنجع والأحسن والأفضل في حق المعزر، فربما ارتكب ما يستوجب التعزير اثنان: أحدهما معروف بالشر، والآخر من أصحاب الهيئات كالعلماء والمشايخ والوزراء والأمراء والسلاطين، أو رجل له منزلة في قلوب الخلق، أو رجل يشار إليه بالبنان بالجود والكرم أو العلم، أو غير ذلك من ذوي الهيئات، وقد مضت السنة على إقالة ذوي الهيئات عثراتهم؛ خلافاً لمن كان معروفاً بالشر والفساد، فإنه إذا وقع فيما يستوجب التعزير فإن قدر له المعزر أقصى العقوبة التعزيرية فيكون هذا مخالفاً إذا ارتكب نفس الفعل رجل من أصحاب الهيئات، فإنما يكفي معه مجرد اللوم أو التوبيخ أو المعاتبة الرقيقة اللطيفة؛ لأنهما لا يستويان في المكانة والمنزلة، كما أن هذا ارتكب الفعل لأول مرة، وهذا ارتكبه عشرات المرات أو مئات المرات فلا يستويان.

فالشاهد هنا: أن الحدود منصوص عليها ومقدرة، ولا يجوز العفو عنها إذا بلغت السلطان خلافاً للتعزير في كل هذه المسائل، كما أنه لا يجوز الشفاعة في الحدود، وتجوز الشفاعة في التعزير خاصة لأصحاب الهيئات.

والعرب قبل الإسلام كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه بغير توبيخ أو لوم أو عتاب، بخلاف الوضيع الذي لا يؤبه له وليس له قبيلة تحترم ولا مكانة لها بين القبائل، فكانوا إذا سرق فيهم من هذا حاله أنهالوا عليه تقريعاً أو ضرباً بالنعال أو توبيخاً أو غير ذلك.