للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث علي بن أبي طالب في ديته لشارب الخمر إذا جلد فمات]

قال: [حدثني محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع البصري حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين] عن أبي حَصِين مكبراً، وهو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي.

قال: [عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنه إن مات وديته)].

أي: إن مات في أثناء الحد غرمت ديته.

يعني: ألزمت نفسي بدفع الدية.

قال: [(لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه)].

وهذا كلام يحتاج إلى وقفة وبيان، فالنبي جلد أربعين -لفظاً صريحاً- بالجريد والنعال، وجلد نحو أربعين، وجلد بجريدتين أربعين.

فكأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب الشارب من باب التعزير لا من باب الحد، وذلك لأن قوله: (نحو أربعين) لا يدل على أنه حد، فلو كان حداً لا نقول فيه: نحو ثمانين ولا نحو أربعين ولا نحو عشرة؛ لأنه لا بد أن يكون الحد محدداً بيناً واضحاً، والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بالجريد أو بالنعال أربعين، وعمر رضي الله عنه ضرب ثمانين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وعمر منهم رضي الله عنه؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة).

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولم يعترض على عمر أحد من الصحابة، فـ عمر لم ينكر عليه علي، بل أقره على ذلك، وكل ما هنالك أن أحب الجلد إليه الجلد الأول؛ ولذلك يقول العلماء في هذه المسألة الخلافية: الخلاف فيها معتبر ومحترم، فلا يقول العلماء: هذا خطأ وهذا صواب، وإنما يقولون: راجح ومرجوح، وإلى يومنا هذا يترجح لدى بعض أهل العلم أن الثلاث طلقات تقع ثلاثاً، عملاً بسنة عمر رضي الله عنه، والجماهير على أن الثلاث تقع واحدة؛ عملاً بالأصل الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر، وعليه عمر في صدر خلافته.

فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي - يعني: أجد في نفسي حرجاً من هذا الموت - إلا صاحب الخمر.

قال: لأنه إن مات وديته).

يعني: دفعت إليه الدية.

وعلل ذلك بأن عقوبة شارب الخمر قد لا تكون من باب الحد ولعلها وقعت في الشرع من باب التعزير.

وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول ذلك؛ لأنه شك أن تكون العقوبة وقعت في الصدر الأول من الإسلام على شارب الخمر من باب التعزير والتأديب لا من باب الحد.

ولو اعتبرنا أن أقل الأقوال هو أن الضرب كان من باب التعزير لا من باب الحد، فلو مات المعزر بسبب حد التعزير أو بسبب أسواط التعزير وجبت ديته، بخلاف المحدود، فلو مات المحدود في الحد فلا تجب له الدية، ولا دية له أصلاً، لكن المعزر إذا مات في أثناء التعزير أو بسبب التعزير فإنه يودى، والذي يوديه السلطان من بيت المال.

وهذا أرجح الأقوال.

وقيل: بل من مال الأمير نفسه.

وقيل: لا يودى.

وقيل: ديته على عاقلة المعزر.

أي: الجلاد.

وللجلاد عند جلده شروط، منها: ألا ترتفع يده عن كتفه، حتى إن بعض أهل العلم غلا في ذلك وقال: ألا يغادر عضده إبطه.

قال: (لأن رسول الله لم يسنه) يعني: لم يترك لنا فيه سنة واضحة بينة.

وعلى أية حال: هذا اجتهاد من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي لم يسن حداً مقدراً معيناً لشرب الخمر.

وهذا الذي قاله علي بن أبي طالب خالفه فيه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

فقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل حد الشارب للخمر أربعين.

وفي هذا الحديث: أن فعل الصحابي سنة يعمل بها، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) في حديث العرباض بن سارية عند الترمذي وغيره.