للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث أبي قلابة في قصة العرنيين]

[حدثنا أبو جعفر -وهو الدولابي البزاز البغدادي ثقة حافظ اسمه محمد بن الصباح - وأبو بكر بن أبي شيبة واللفظ لـ أبي بكر قال: حدثنا ابن علية - إسماعيل - عن حجاج بن أبي عثمان -وهو أبو الصلت البصري - قال: حدثني أبو رجاء مولى أبي قلابة -واسمه سلمان، ليس له في الصحيحين حديث إلا هذا الحديث- عن أبي قلابة -وهو عبد الله بن زيد الجرمي البصري - قال: حدثني أنس: (أن نفراً من عكل)].

والحديث الأول أنهم كانوا من (عرينة)، وهنا أنهم من (عكل) وفي رواية (من بجيلة)، ووجه الجمع أن هذه كلها قبائل من البحرين انتدبت أناساً منهم فاجتمعوا جميعاً فأتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: [(أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام)] في هذه الرواية إثبات أنهم أسلموا.

وفي الحديث الأول إثبات أنهم ارتدوا.

قال: [(فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم)].

استوخموا أي: أصابهم الوخم، وهو داء يصيب البدن يجعل الإنسان كالتالف لا يقدر أن يقوم من مقامه، فهو إنسان كسول، ويحس بالفتور والخمول، والوخم، لا يستطيع أن يزاول عمله، ولا أن يعود إلى نشاطه، وهذا داء يصيب الإنسان إذا غير أرضاً إلى أرض، أو مكاناً إلى مكان، أو جواً إلى جو، ولذلك نحن في تغير الفصول يكون الشخص يشعر بالكسل، وهو تالف، وجسمه مكسر، وغير ذلك؛ لأن هذا انتقال من فصل الشتاء إلى فصل الصيف، فالمدينة ومكة بالذات هما البلدان اللذان يحس الداخل فيهما لأول مرة بهذا الداء، فيشعر بالوخم، وأنه غير قادر على المشي، ولا على الحركة والنشاط.

ومعنى: وسقمت أجسامهم.

أي: مرضت واعتلت.

[(فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها؟ فقالوا: بلى يا رسول الله! فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا)] أي: زالت علتهم ووخمهم [(فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل)].

وفي رواية: (وأطردوا النعم).

أي: ساقوها أمامهم في طريق عودتهم إلى بلادهم.

[(فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهم)] أي: خلفهم على نفس الطريق الذي صاروا فيه.

[(فأدركوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا)].

قال ابن الصباح في روايته: (وأطردوا النعم) أي: ساقوها أمامهم.

وقال: (وسمرت أعينهم) أي: دكت بالمسامير المحمية، وهذا الذي يعرف في الشرع بالمثلة.

والتمثيل بجثة الإنسان: أن يجدع أنفه، أو تقطع أذنه، أو يقطع له أي عضو، أو تسمل أو تسمر عينه بالمسامير والشوك وغير ذلك.

ومعلوم أن (النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن المثلة)، ومع هذا قد مثل بهؤلاء؟ وجواب ذلك: إما أن يكون مثل عليه الصلاة والسلام قبل النهي، ومذهب الجماهير أن النهي عن التمثيل إنما هو نهي تنزيه وكراهة، وليس نهي حرمة.

وبعضهم قال: إنما فعل النبي عليه الصلاة والسلام بهؤلاء كما فعلوا قصاصاً.

وهو الراجح.

والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحرق بالنار إلا رب النار).

وهذا نهي شديد وزجر أكيد عن الحرق والإيذاء بالنار، لكن لو أن واحداً أحرق غيره بالنار، فيجوز حرق هذا الحارق بالنار قصاصاً.

أي: يستثنى من النهي القصاص؛ لأن هذا خالف النهي، وارتكب الإثم، فأحرق غيره بالنار، فالقصاص يستوجب أن من قتل يقتل بالكيفية التي قتل بها.

قال: [حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني - عن أبي رجاء سلمان مولى أبي قلابة قال: قال أبو قلابة: حدثنا أنس بن مالك قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عكل أو عرينة فاجتووا، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح)].

واللقاح هي الناقة ذات الدر، الناقة التي تحلب [(وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها) وذكر الحديث بمعنى حديث حجاج بن أبي عثمان السابق.

قال: (وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)].

وقوله: (يستسقون فلا يسقون) ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بألا يستجيب أحد لسقايتهم، كما أنه ليس فيه أنه نهى عن سقيهم.

(قال القاضي عياض: وقد أجمع المسلمون على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع الماء قصداً -أي: لا يتعمد أحد منع الماء عنه- فيجمع عليه عذابين: عذاب القتل، وعذاب منع السقاية).

قلت: قد ذكر