للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب المجازاة بالدماء في الآخرة]

الباب الثامن: (باب المجازاة بالدماء في الآخرة).

المجازاة: المقاصة.

أي: تقتص ممن أسال دمك، وأزهق روحك، فالجزاء بمعنى المقاصة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة: صلاته فإن صحت صح ما بعدها، وإن فسدت فسد ما بعدها).

وهنا يبين هذا الحديث أن أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة هو الدماء، فظاهر الأمر التعارض بين الحديثين، ولا يمكن أن يقال: (من أول ما يقضى فيه بين العباد الدماء).

فلا يمكن إدخال (من) التي هي للتبعيض أو للتجزئة، ولا يستقيم المعنى، فإذا كان الحديث الأول يقول: (أول ما يقضى فيه بين العباد يوم القيامة الدماء).

والحديث الثاني يقول: (أول شيء يحاسب عليه المرء يوم القيامة الصلاة).

فهنا يكون التعارض.

وأهل العلم يقولون: عند تعارض ظواهر النصوص لا بد من بحث مسألة أولية وهي: إثبات صحة هذه الأدلة، فإن تبين لنا أن أحد الأدلة ضعيف والآخر صحيح لم يبق حينئذ إشكال؛ لأن الضعيف يكفي في رده أنه ضعيف، ويسلم لنا دليل واحد فلا يكون حينئذ في القضية أي تعارض، لكن المشكل إذا صح الدليلان وظاهرهما التعارض فلا بد من إضافة مسألة اعتقاديه في هذا المقام وهي: أن هذان الدليلان إذا صحا فلا بد من القول بأنهما قد خرجا من مشكاة واحدة، إما أن يكون الذي قال هذا هو الله عز وجل، أو أنه رسوله عليه الصلاة والسلام، وقول الرسول وحي بلا خلاف عند أهل السنة، والله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢]، فإن كنا نؤمن أن كل الوحي المتلو وغير المتلو هو من عند الله عز وجل، وأن الذي يأتي من قبل الله عز وجل لا يمكن أن يكون فيه تعارض فلا بد أن نرجع على أنفسنا فوراً بالاتهام بقصور الفهم.

نقول: هذان الدليلان وإن كان ظاهرهما التعارض إلا أن هذا التعارض فيما يبدو للناظر ليس في أصل الخبرين؛ لأنك لو قلت: إن التعارض في النص لا بد أنك ستتهم الله تعالى، أو تتهم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن هذا كفر لا نزاع فيه، فإذا ثبت صحة الدليلين فإما أن نقول بأن أحدهما سابق والآخر لاحق، وهذه المسألة يتطرق إليها ما يسمى عند العلماء بالنسخ.

أي: أن أحد الدليلين ناسخ للآخر، لكننا لا نذهب إلى النسخ إلا إذا استحال الجمع؛ لأن الأصل أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، فأن أعمل بالنصين خير من أن أرد نصاً بغير بينة ولا حجة، وأعمل بالنص الآخر، فإعمال الدليلين وذلك بمحاولة التأليف بين النصين للعمل بهما معاً أفضل، فمثلاً: حديث طلق بن علي رضي الله عنه: (لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله! أنتوضأ من مس الذكر؟ قال: لا.

إنما هو بضعة منك).

أي: جزء منك مثل الساق، ومثل القدم، ومثل بقية أعضائك.

وفي حديث بسرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من مس ذكره فليتوضأ).

فلا شك أن التعارض ظاهر، والخطوة الأولى التي اتفقنا عليها، وهي أنهما صحيحان.

الخطوة الثانية: لا يمكن مع ثبوت صحة الدليلين أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أخطأ في أحدهما، فمن اعتقد ذلك فقد كفر.

الثالثة: إذا أمكننا الجمع بين هذين النصين وإلا صرنا إلى النسخ، ولذلك بعض العلماء ذهب إلى النسخ مباشرة وقال: إذا ثبت عندنا السابق واللاحق صرنا إلى النسخ، ولا حاجة بنا إلى تكلف الجمع.

وعلامة النسخ: هو ظهور الاختلاف في النصين، وأن طلق بن علي أسبق إسلاماً من بسرة، فيكون حديثه هو المنسوخ، وحديث بسرة هو الناسخ، وحديث طلق (إنما هو بضعة منك) جاء في أول الإسلام، وأن من مس ذكره في أول الإسلام لا وضوء عليه، لكن لما استقر الأمر وتفقه الناس قال عليه الصلاة والسلام: (من مس ذكره فليتوضأ).

هكذا ذهب جماهير العلماء.

والأحناف ومن معهم قالوا: لا نسخ في هذه القضية؛ لأن الجمع ممكن؛ لأن الأصل الأصيل: إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما.

قالوا: لا نسخ في القضية.

والدليل: أن حديث طلق بن علي مع حديث بسرة محمولان على أن من مس ذكره بشهوة.

وهذا مقصود النبي عليه الصلاة والسلام، فمن فعل ذلك فعليه الوضوء، ومن مس ذكره بغير شهوة فلا وضوء عليه.

نرجع إلى أصل موضوعنا: (أول ما يقضى فيه بين العباد هو الدماء)، هذا فيما يتعلق بالقضاء والفصل في المنازعات بين الخلق؛ لأنها من حقوق العباد، فأول ما يقضى فيه من حقوق العباد هو الدماء، أما الصلاة فإنها من حق الله تعالى ولذلك أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة فيما يتعلق بحق الله هو الصلاة، فلم يبق في هذين الحديثين تعارض.