للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اختلاف الفرق حول مسألة خلق الله لأفعال العباد]

وهذه المرتبة ضلت فيها فرق كثيرة وعلى رأسها المعتزلة، وقد تحدث السلف في كتبهم عن مسألة خلق أفعال العباد، وصنف الإمام البخاري كتاباً مستقلاً سماه خلق أفعال العباد.

والحق: أن الله تعالى خالق لأفعال العباد جميعها من خير وشر، فالمعصية التي يقوم بها العبد خلقها الله تعالى وكتبها وقدرها عليه؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا شيء إلا والله تعالى خالقه، والمسلمون تفرقوا في هذه المسألة فرقاً كثيرة، ولم يستطيعوا بعقولهم القاصرة بعد ابتعادهم عن القرآن والسنة أن يفهموا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد.

ونجى الله تعالى سلف هذه الأمة من كل شر، ووقاهم الانحراف والوقوع في البدع والضلالات، فهم أسعد الناس بالحق، وأشد الناس حرصاً عليه وتمسكاً به، وقد فهموا هذه المسألة وآمنوا بها متبعين لا مبتدعين.

يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس.

ومسائل الإيمان بالقضاء والقدر مسلمة عند عامة المسلمين، فهم يؤمنون بها، إلا مسألة خلق الفعل، فهم فيها في اضطراب عظيم.

ويرد على الذين اضطربوا واختلفوا في مسألة الإيمان بخلق الله عز وجل لأفعال العباد أن الفعل له جهتان، جهة قائمة بالرب سبحانه وتعالى، وهي علمه وقدرته ومشيئته وخلقه وإيجاده؛ أي: علمه سبحانه وتعالى بأن هذا العبد سيفعل كذا في يوم كذا وعلى هيئة كذا وبصفة كذا، وأن الله تعالى قدر ذلك عليه إما تقديراً شرعياً أو كونياً، وشاء ذلك وخلقه، وأوجده من جهة العبد، والجهة الثانية متعلقة بالعبد، وهي فعله وكسبه.

فالفعل الذي يفعله العبد له متعلقان: متعلق بالله عز وجل من جهة الإرادة والعلم والمشيئة والخلق والإيجاد؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريد ويشاء، وقد علمه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

وهذا متعلق بجميع مراتب القدر، العلم والكتابة والمشيئة والخلق، فالفعل له تعلق بالله عز وجل من هذه الجهات الأربع، وأما تعلقه بالعبد فمن جهة العمل والكسب، أي: أن العبد هو الفاعل حقيقة لما فعل، بخلاف الجبرية الذين يقولون: إن الفاعل الحقيقي للفعل هو الله، وهذا كلام باطل ومردود، ويقولون: لا دخل للعبد ألبتة بالفعل لا من جهة الخير والشر، ولا من جهة الثواب والعقاب، وهذا كلام في غاية التناقض، فإن العبد هو الذي اكتسب الفعل وعمله بجوارحه القلبية أو الظاهرة، فهو من كسب العبد وعمله.

ومثال لذلك: قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:٢٢].

فالله سبحانه هو الذي يسيرنا، ونحن نقوم بأداء الفعل وهو السير، فالذي يسير في البحر هو العبد، والذي أراد هذا السير وخلقه وأوجده ووفق العبد له هو الله عز وجل، وقد علم هذا السير وكتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

ولو أن رجلاً زنى أو سرق، فالزاني والسارق هو العبد، فهو الذي اكتسب هذا الفعل وعمله بجوارحه، فهو متعلق به من جهة الكسب ومن جهة العمل، والله عز وجل هو الذي قدره عليه؛ لأنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما أراده الله عز وجل، ومن قال: إنه يقع في ملك الله ما لا يريده فقد كفر.

والله عز وجل إذا شاء وقوع فعل فلابد أن يقع وإن اجتمع الخلق جميعاً على عدم إيقاعه، والعكس بالعكس.

وإذا زنى العبد فإن الله عز وجل يكره هذا، وقد حرمه ونهى عنه، والله لا يحب الفساد، وهذا فساد وإفساد في الأرض، والله عز وجل يحب الطهارة، وقد أمر بها وحض عليها، وهو تعالى يحب المتطهرين حباً شرعياً دينياً، ويكره الزنا والخبث، وقد نهى عنه وحذر منه تحذيراً شرعياً.

والذي يقع فيما يكرهه الله ويبغضه قد علم الله تعالى سلفاً وأولاً أنه سيقع فيه، والله عز وجل قد نهاه عنه نهياً شرعياً، وحذره منه تحذيراً شرعياً، ووقوع العبد فيه وقوع كوني، أي: متعلقاً بالكون وبقدر الله عز وجل الذي كتبه على العبد قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

وأما الإرادة الشرعية فهي متعلقة بكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وهو شرع الله عز وجل الذي أمر به وحض عليه وحث عليه الناس جميعاً.

فمن أتى ما أمر الله عز وجل به نقول: إنه وافق فيه إرادة الله الشرعية الدينية، فالله عز وجل أمر بتوحيده، وبالصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أتى فعلاً من هذه الأفعال فقد وافق إرادة الله الشرعية الدينية، وأما الذي يسرق ويزني ويفسد في الأرض فنقول: إنه وافق إرادة الله الكونية القدرية، أي: المتعلقة بما يقع في الكون كله، أي: المتعلقة بإرادة الله المطلقة التي تشمل الشرعية والقدرية، وأما إرادة الله الشرعية فإنها لا تنصب إلا على ما يحبه الله تعالى ويرضاه.