للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبادة الملائكة]

الملائكة مطبوعون مجبولون على طاعة الله تبارك وتعالى، وليس لديهم القدرة على العصيان، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:٦]، يعني: إذا وجه إليهم أمر فإنهم لا يعصون الله تبارك وتعالى، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦].

فتركهم للمعصية وفعلهم للطاعة جبلة جبلهم الله تبارك وتعالى عليها، وقد فطرهم وخلقهم على ذلك، فلا تكلفهم الطاعة أدنى مجاهدة؛ لأنهم لا شهوة لهم.

ولعل هذا هو الذي دعا فريقاً من العلماء إلى القول: بأن الملائكة ليسوا مكلفين، ولا داخلين في الوعد والوعيد، ونحن نقول: إنهم ليسوا مكلفين بنفس التكاليف التي كلف بها بنو آدم، وأما القول بعدم تكليفهم مطلقاً فهو قول مردود، ترده الآيات والأحاديث، ومنها قول الله تبارك وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:٥٠].

فقد قال في الآية: إنهم يخافون ربهم، والخوف نوع من أنواع التكاليف الشرعية، بل هو من أعلى أنواع العبودية.

وقال تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:٢٨].

والملائكة لهم مكانة عظيمة عند الله تبارك وتعالى، وهذا بخلاف ما افتراه المشركون في قولهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء:٢٦]، فرد عليهم سبحانه بقوله: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:٢٦] فالله تبارك وتعالى وصفهم بأنهم عباد مكرمون، فوصفهم بأنهم عباد، أي: حق العبودية، فهم يعبدون الله تبارك وتعالى حق العبادة، ويقدرون الله حق قدره، وهم كذلك مكرمون.

ثم قال: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٢٧ - ٢٩].

فالملائكة عباد يتصفون بكل صفات العبودية، وهم قائمون بالخدمة، ومنفذون للأوامر، وعلم الله تبارك وتعالى بهم محيط، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا الأوامر أو يخالفوا التعليمات الملقاة إليهم، بل هم خائفون وجلون، وعلى احتمال أن يتعدى أحدهم حده فإن الله تبارك وتعالى يعذبه جزاء تمرده.

ومن تمام عبوديتهم لله تبارك وتعالى أنهم لا يتقدمون بين يدي ربهم مقترحين، ولا يعترضون على أمر من أوامره، بل هم عاملون بأمره، مسارعون مجيبون، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:٢٧].

وهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به، فالأمر هو الذي يحركهم ويوقفهم، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ -يعني: هل لك أن تزرونا أكثر من هذا؟ - فنزل قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:٦٤].

والشاهد من ذلك: أن الملائكة لا يصدر منهم فعل ولا قول ولا حركة ولا سكنة إلا بأمر الله تبارك وتعالى.

والملائكة يسبحون الله تبارك وتعالى، ويذكرونه بالتسبيح والتهليل والتعظيم، كما قال تعالى عن حملة العرش: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:٧].

وليس حملة العرش هم الذين يسبحون الله تبارك وتعالى فقط، بل التسبيح ورد في عموم الملائكة، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:٥]).

وتسبيح الملائكة لله تبارك وتعالى دائم لا ينقطع، لا في الليل ولا في النهار، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠]، أي: لا يملون ولا يسأمون.

ولكثرة تسبيحهم كانوا هم المسبحون حقاً، وحق لهم أن يفخروا بذلك، وقد قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:١٦٥ - ١٦٦].

فلما اتصل تسبيحهم وذكرهم لله تبارك وتعالى ولم ينقطع، ولم يفتروا أو يسأموا من ذلك حق لهم أن يفخروا بأنهم هم المسبحون على الحقيقة؛ وغيرهم يعتريه الملل والسأم والكلل، فحق للملائكة أن ينسب إليهم أنهم هم المسبحون حقاً.

والتسبيح أفضل الذكر، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر أنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده -أي: الذي اصطفى الله لملائكته أو لعباده، وما هنا اسم موصول بمعنى الذي والذي اصطفاه الله تب