للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف)]

قوله عليه الصلاة والسلام: [(ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف)].

والمتضعف -بالفتح والكسر- معناه: من يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا.

يقال: تضعفه واستضعفه.

أما المتضعف فمعناه: المتواضع المتذلل المنكسر لله عز وجل.

قال: (قال القاضي عياض: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها، وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار هم القسم الآخر).

قوله: [(مدفوع بالأبواب)].

يعني: يأتي إليك من أجل أنه رجل فقير فتقوم بطرده من الباب؛ لأنه لا يتناسب مع حشمة الأغنياء ووجاهتهم، مع أن هؤلاء هم أتباع الأنبياء، وهم ناصرو الأنبياء، وهم أهل الإيمان حقاً، ولا يعني ذلك أن الأغنياء ليسوا من أهل الإيمان، لكن الغالب على الفقراء والضعفاء والمساكين أنهم أهل الإيمان، والغالب أن أهل الغنى يصرفهم غناهم عن الله عز وجل، وصاحب الملايين في هذا الوقت لا يمكن نراه في هذا المسجد، لأنه قد شغلته أمواله عن الحضور والتذلل والانكسار، فإذا شغلته يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام نسي بركة هذه المجالس، ولم يتذوق حلاوتها، فكان بعيداً أو هو يبعد شيئاً فشيئاً عن حلاوة الإيمان، ولا ننفي عنه الإيمان والإسلام، وإنما نقول: إنه فقد حلاوة الإيمان، والمؤمن لا يتذوق حلاوة الإيمان إلا بطلب العلم الشرعي، وسماع كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الغني قد صرفه غناه عن سماع كلام الله، وإن كان مؤمناً لكن الفارق جوهري بين تذوق المؤمن المطيع لحلاوة الإيمان، وتذوق العاصي لحلاوة الإيمان.

قوله: (كل ضعيف متضعف) أي: متذلل منكسر لله عز وجل، لا يشمخ بأنفه إلى السماء، ويمن على الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧]، فكل واحد منا محتاج إلى مراجعة ووقفة مع الذات من أول لحظة في حياته حتى يقدم على الله تبارك وتعالى.

قوله: (لو أقسم على الله لأبره).

معناه: لو حلف يميناً طمعاً في كرم الله تعالى بإبراره لأبره.

وقيل: لو دعاه لأجابه.

يقال: أبررت قسمه وبررته.

والأول هو المشهور.

قوله: [(وأما أهل النار: فكل عتل جواظ مستكبر)].

أما العتل: فهو الجافي الشديد الخصومة في الباطل، وهذا يحدث معنا كثيراً جداً، الواحد لما يأتي يعد أوصاف أهل النار يجد كل الأوصاف متوفرة فيه، فهو يعرف الحق ويجادل، ويماحك، ويخاصم، وهو في نفس الوقت يعلم أنه على الباطل، فكيف يكون هذا من أهل الجنة الداخلين أولاً مع الداخلين؟ ومعنى (كل عتل) أي: كل جاف شديد الخصومة في الباطل.

وقيل الجافي: هو الفظ الغليظ.

وأما الجواظ: فهو الجموع المنوع.

وقيل: الجواظ هو كثير اللحم المختال في مشيته.

أي: المستكبر في مشيته.

وقيل: هو القصير البطين.

أي: صاحب كرش.

وقيل: هو الفاخر، أي: الذي يفخر بنفسه على الخلق.

وأما الزنيم: فهو الدعي في النسب، رجل انتسب إلى قوم وهو يعلم أنه ليس منهم، وشبه بزنمة الشاة.

وأما المتكبر والمستكبر: فهو صاحب الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس.

أي: رد الحق وظلم الناس.

[قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بأهل الجنة! كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل جواظ زنيم متكبر).

وفي رواية: (كل عتل جواظ مستكبر).

وفي رواية في وصف أهل الجنة: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)].

يعني: ربما يكون هناك من شعره أشعث من ينظر إليه لا يعبأ به ولا يحترمه ولا يقدره، وإذا طرق عليه بابه ينهره ويزجره ويطرده من الباب، وهذا الذي تراه على هذه الصفة وتلك الهيئة منزلته عند الله عظيمة بحيث أنه لو دعا الله لأجابه، فلم تدفعه؟ فلو دعا عليك لأجابه الله عز وجل.

أما من قال أن الشعث هم البله، يلزمه أن يقول أن هؤلاء المجانين هم ممن ينطبق عليهم قوله: (أشعث) لكن الأشعث هو كل ضعيف يستضعفه الناس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما مر عليه رجل: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله! إنه لجدير إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح).

يعني: الناس كلها تتمنى أن تزوج هذا، وأن تتكلم معه لشرفه، وبعض الناس لا يزال محتفظاً بصورة قد تصورها أيام الشقاوة مع الرئيس الفلاني، أو الأمير الفلاني، أو اللاعب الفلاني، أو الراقصة الفلانية، فهو لا يزال يذكر ماضيه ويفتخر به، مع أنه أولى به أن يطمسه تماماً، وألا يذكره، لكنه على أية حال يرى أن هذا فخر، ولو كان قد التقط تلك الصورة مع رجل ضعيف متذلل منكسر لا يسمع به الناس، يخلو بربه في الليل فيكسب من نوره سبحانه، لقال: تلك الصورة ليس لها قيمة ويتمنى ألا أحد يراها، مع أنها شرف.