للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقوع الابتلاء بالأنبياء وبيان الحكمة من ذلك]

قال الإمام: (وفي هذا -أي الحديث- وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر).

هل هناك أشرف من النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا أحد، ومع هذا نزل به وحل به في غزواته من البلاء ما لا يمكن لأحدنا أن يطيقه وهو نبي الله وهو حبيب الله، ولن يضيعه الله، ومع هذا نزل به ما قد سمعتم، حتى لا يقال: إذا كان هؤلاء مؤمنين حقاً وعلى حق فلم فعل الله بهم كذا وكذا؟ فهذه سنة الله تعالى في الخلق، (وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل).

والنبي عليه الصلاة والسلام في الأمور البشرية مثله مثل غيره بل زيادة، أليس هو الذي قال: (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)؟ أي: حينما تنزل بي الحمى والمرض تنزل بي الآلام مضاعفة كما لو كان اثنان منكما قد نزل بهم الضر، وهو نبي الله بمنطق العصر أو بمنطق أهل الدنيا، أو بمنطق من لا علم له بالسنن الكونية.

قد يقول قائل: إذا كان هذا هو النبي حقاً فإنه لا يمرض ولا ينزل به البلاء.

فاستمراراً لهذه الغفلة نقول: إذا كان هو النبي حقاً فكان لزاماً عليه أن يجلس في بيته وأن يدعو ربه، فإن دعاء الأنبياء مستجاب، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يشارك في الصفوف المقدمة بقتال العدو حتى يسن ذلك لأمته، وكان بإمكانه أن يجلس في برج من عاج، ولكنه لم يفعل ذلك؛ ليكون قدوة لكل من تولى إمرة الإسلام والمسلمين من بعده، ولكن الأمة خالفت فوقعت فيما وقعت فيه.

قال: (وفي هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم.

قال القاضي عياض: وليعلم الناس أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم).

فالنصارى زعموا أن عيسى إله.

ومنهم من زعم أنه ابن الله لما رأوا على يدي عيسى عليه السلام من المعجزات وخوارق العادات، فقالوا: هذا لا يمكن أن يتم على يد بشر، هذا لا بد أنه إله، أو أنه ابن الله، والله أراد أن يكرم ولده.

تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم وأراد الله تعالى أن يبين لهذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مثلكم في بشريته كما أنكم بشر، فينزل به المرض والابتلاء، وينال منه العدو، وينال من العدو، والحرب سجال ينال منا وننال منه وغير ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا كغيره من الناس.

وفي مجموع هذا كله دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، فأنتم تعلمون: إلى الآن أن بعض غلاة الصوفية يعدون النبي صلى الله عليه وسلم إلهاً.

بل منهم من يقول: هو أول خلق الله.

ونسمع هذا كثيراً في إذاعة القرآن الكريم التي ما أنشئت إلا لنشر التصوف في الأمة، يقولون: يا أول خلق الله! ويا نور عرش الله! فهل النبي صلى الله عليه وسلم هو نور عرش الله؟ ويعتمدون على الحديث الموضوع حديث جابر: أول ما خلقت نور نبيك يا جابر! وهذا حديث موضوع مكذوب لا قيمة له، فنحن نسمع الناس في هذا الوقت يقولون: يا أول خلق الله! ويا نور عرش الله! فما هو الفرق بين هذا القول وبين قول النصارى: عيسى ابن الله؟ هذا ضلال وذاك ضلال.

وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب.

قال: اكتب كل شيء إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة).

وهذا نص صريح أن أول المخلوقات هو القلم.

وهناك خلاف: هل القلم أول المخلوقات أم العرش؛ لقول الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:٧].

على أية حال ليس هذا أوان البحث في هذه المسألة، ولكنا أردنا أن نبين أنه قد لُبس على بعض المسلمين في أوصاف للنبي عليه الصلاة والسلام، فذكروا أوصافاً ليست له لا في الكتاب ولا في السنة.

فليتق الله أقوام يجعلون للرسول ما هو خاص لله، ويجعلون لمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل ذي حق حقه!!