للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مذهب المالكية في معنى حديث: (اليمين على نية المستحلف)]

قال النووي: (ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك اختلافاً وتفصيلاً، فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته، ويقبل قوله).

يعني: إذا حلف من غير أن يستحلفه أحد فيوري، أو حلف بعد أن يحلفه أحد غير القاضي كذلك له أن يوري، لكن نتيجة هذا الحلف لا يتعلق بها حق للآخرين، فلو حلف مستخدماً التورية أو المعاريض؛ فإنه لا يأثم بذلك ويقبل قوله.

ثم قال: (وأما إذا حلف لغيره في حق أو وثيقة متبرعاً، أو بقضاء عليه؛ فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه، سواء حلف متبرعاً باليمين أو باستحلاف) يعني: لو ابتدأ هو اليمين، أو حلفه الآخرون؛ فإنه حينئذ يأثم، وتلزمه التوبة.

ثم قال: (وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل: اليمين على نية المحلوف له).

اختلف المتأخرون في إعادة الضمير في قوله: (له) هل هو المفعول له إذا أتى الشاهد فحلِّف، فلا شك أنه يحلف لمصلحة أحد المتنازعين، فهل المقصود في عود الضمير في قوله: (على نية المحلوف له) هل هو أحد الخصمين المتنازعين، أو المحلوف له، أي: القاضي؟ على خلاف، الراجح أنه القاضي، واليمين حينئذ على نية المستحلِف وهو القاضي.

ثم قال: (وقيل: على نية الحالف، وقيل: إن كان مستحلَفاً؛ فعلى نية المحلوف له، وإن كان متبرعاً باليمين؛ فعلى نية الحالِف، وهذا قول عبد الملك وسحنون، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم، وقيل عكسه، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم، وقيل: تنفعه نيته فيما لا يقضى به عليه، ويفترق التبرع وغيره فيما يقضى به عليه، وهذا مروي عن ابن القاسم أيضاً.

وحكي عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث، وما كان على وجه العذر فلا بأس به) يعني: إذا كنت تحلف وتستخدم التورية على سبيل المكر والخديعة، فأنت تأثم بذلك، حتى وإن كنت المبتدئ باليمين.

أما إذا استخدمت التورية وحلفت، وكان على وجه العذر، فأنت معذور في ذلك، ولا بأس عليك.

ثم قال: (وقال ابن حبيب -من المالكية- عن مالك: ما كان على وجه المكر والخديعة فله نيته، وما كان في حق فهو على نية المحلوف له.

قال القاضي: ولا خلاف في إثم الحالف بما يقع به حق غيره، وإن ورَّى، والله أعلم).

إذاً: اليمين على نية المستحلِف، خاصة إذا كان المستحلِف قاضياً، فإذا حلفك القاضي بالله فلا يحل لك أن توري في هذا اليمين، هذا أمر.

الأمر الثاني: إذا كان هذا اليمين متعلقاً بحق الآخرين، فهذا أوكد في أن اليمين على نية المستحلِف، أما إذا حلفت على شيء مبتدئاً بالله تعالى، فلا يجوز لك كذلك أن توري، وهذا هو الراجح في مذهب المالكية دون الشافعية.

ونقلنا الإجماع على أن المقصود بهذا القاضي.

على أية حال يترجح لدي في نهاية الأمر مذهب مالك: أن اليمين على نية المستحلِف، خاصة إذا كان المستحلِِف هو القاضي؛ لتعلق حقوق الآخرين به، وهذا أوكد في حرمة التورية إذا حلفك القاضي بالله تعالى.

أما إذا ابتدرت أنت اليمين، فالراجح من مذهب مالك لا يحل لك التورية؛ لأن الذي أمامك إنما يحملك على ظاهر قولك، ويسمع منك هذا، فإذا كان الذي أمامك يقبل منك ظاهر قولك، وتريد أن تستخدم التورية والمعاريض فلا بأس بذلك بغير يمين.

هذا هو الذي يترجح لدي في الباب كله من أوله إلى آخره.